38serv
يحيل ملف المفقودين الذي أصبح يُتداول عقب زيارة وزير المجاهدين الطيب زيتوني الأخيرة لباريس، على أكثر من ثلاثة آلاف جزائري مفقود خلال معركة الجزائر لوحدها. وكان الجنرال “بول أوساريس” قد اعترف في مذكراته المنشورة سنة 2001 بأنه يقف وراء اختفاء هؤلاء الأشخاص، بينما رفض العقيد “مارسيل بيجار”، باعتباره أحد المسؤولين عن قمع معركة الجزائر، الاعتراف بما جرى، رغم أن الكتابات التاريخية الفرنسية لاتزال تتحدث إلى اليوم عن ما أسمته “les crevettes Bigeard”، كاستعارة تستعمل منذ عام 1957للإشارة إلى هؤلاء المفقودين خلال معركة الجزائر، والذين تعرضوا للتعذيب، ثم ألقي بهم في عرض البحر من طائرات مروحية. برز تعبير “جمبري بيجار” عقب تدخل المظليين الفرنسيين بقيادة الجنرال ماسو، لكسر إضراب الثمانية أيام الذي دعت إليه جبهة التحرير الوطني بين 28 جانفي و4 فيفري 1957. ولجأ هؤلاء المظليون لاستعمال وسائل قمعية رهيبة، وقاموا بحملات اعتقال واسعة في أوساط سكان مدينة القصبة، وبطريقة عشوائية، بغية تكسير النظام الثوري والتعرف على قادة الثورة، والعثور على مخابئ الأسلحة وأماكن صنع القنابل.وتميزت تلك المرحلة باتخاذ الحكومة الفرنسية، عبر الحاكم العام “روبير لاكوست”، قرار منح الجيش الفرنسي مطلق الصلاحيات لوضع حد للعمليات الفدائية التي كان يقوم بها فدائيو ياسف سعدي، فانتشر زهاء عشرة آلاف من المظليين الملقبين بـ”الفهود” بسبب بزاتهم المرقطة، وشنوا حملات اعتقال واسعة، ونقلوا آلاف الجزائريين إلى مراكز للفرز في بوزريعة وبني مسوس وفيلا سوزيني، وقاموا بإعدامات من دون محاكمة، أشهرها إعدام العربي بن مهيدي في فيفري 1957، والمحامي علي بومنجل في شهر مارس من نفس العام، مثلما اعترف بول أوساريس في مذكراته. وكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد اتخذ قرار نزع وسام الشرف من أوساريس بعد الجرائم الفظيعة التي اقترفها في حق الجزائريين، منذ أن شغل منصب ضابط مكلف بالاستخبار في الشمال القسنطيني سنة 1955. وتمت محاكمة أوساريس بتهمة “تمجيد استعمال العنف والتواطؤ في كتابته”، وليس بتهمة “اللجوء إليه”. وسبق لأوساريس أن انتقل في نوفمبر 1962 للتدريس في المعاهد العسكرية الأمريكية، وتخصص في تلقين كيفية قمع “الحروب الشعبية”، استنادا إلى تجربته في الجزائر خلال حرب التحرير، وكان يردد أمام طلبته قائلا: “الجماهير هي العدو خلال الحروب الثورية”. وكان يضيف: “يجب إعدام كل من تعرض للتعذيب”.يذكر أن بعض جماعات حقوق الإنسان الفرنسية سعت لمحاكمة الجنرال أوساريس عقب صدور مذكراته، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلا أنها لم تتمكن نظرا لصدور عفو عام سنة 1968 عن ما ارتكب في “حرب الجزائر” من جرائم حرب، لكنها نجحت في المقابل في إقامة دعوى قضائية ضده بموجب قانون يجرم محاولات تبرير جرائم الحرب.رمي الجثث في عرض البحرتشير عدة مصادر تاريخية فرنسية إلى أن عملية التخلص من جثث هؤلاء المعتقلين بعد إعدامهم دون أي محاكمات كانت تتم بواسطة رميها في الجبال المجاورة للجزائر العاصمة، لكن بعد وقت قصير تم العثور على بعضها، ما دفع القيادة العسكرية إلى التفكير في إيجاد طريقة أخرى للتخلص من تلك الجثث، فجاء خيار نقلها عبر المروحيات إلى عرض البحر لرميها هناك، وبعد أيام كانت الأمواج تعيدها إلى الشاطئ، وهنا ظهرت استعارة “جمبري بيجار”. ويروي الجنرال “بول أوساريس” في مذكراته أنه هو من اقترح على الجنرال ماسو ربط هؤلاء المعتقلين بعد تعذيبهم إلى كتلة من الإسمنت والإلقاء بهم في عرض البحر، حتى تظل جثثهم مختفية ولن تظهر مجددا مثلما كان يحدث في السابق.وبينما حرص “بول تيتغن”، أمين عام الشرطة الفرنسية على مستوى العاصمة، من 1954 إلى غاية سنة 1957، على تحذير مظليي الجنرال ماسو من القيام بأي تجاوزات، مؤكدا على ضرورة سلامتهم من أجل محاكمتهم، لم يكترث الرائد “بول أوساريس” بذلك، فكان يتفنن في التعذيب والتخلص من الجثث برميها في عرض البحر. وكتب في مذكراته بكل برودة دم: “لا يمكن إطلاق سراح شخص بعد أن تعرض للتعذيب”، في إشارة منه إلى بشاعة التعذيب الذي كان يطال الجزائريين بعد إلقاء القبض عليهم. وقد بلغ عدد هؤلاء المفقودين خلال معركة الجزائر لوحدها ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعة وتسعين مفقودا حسب “ايف كوريير”، وهو العدد الذي كشف عنه “بول تيتغن” الذي عارض ممارسات الجنرال ماسو، وقدم استقالته من منصبه للحاكم العام “روبير لاكوست” بتاريخ 29 مارس 1957، وكان بمثابة ثاني شخصية مهمة تستقيل من منصبها احتجاجا على عملية القمع والجرائم التي كانت ترتكب في حق الفدائيين الجزائريين، بعد الجنرال “باري دو لابورديير”. وأبدى “بول تيتغن” في رسالة الاستقالة التي نشرها “ايف كوريير” لأول مرة في الجزء الثاني من كتابه “حرب الجزائر”، امتعاضه من ممارسات ماسو وعقدائه، في حين لم يتمكن الحاكم العام “روبير لاكوست” من فعل أي شيء لوضع حد لتلك التجاوزات، بعد أن أعطى “ورقة بيضاء” للجنرال ماسو لقمع الثورة في الجزائر العاصمة.عودة الحديث عن المفقودين عقب رحيل بيجاروكشف “بنيامين ستورا” والصحفي الفرنسي “فرانسوا مايلي” في كتابهما الصادر بعنوان “فرانسوا ميتران وحرب الجزائر”، أن هذا الأخير، واستنادا إلى تقارير مسؤول مركز بني مسوس حيث كانت تتم عملية الفرز سنة 1957، أصر على تناول قضية المفقودين، لكن “لاكوست” رفض الاعتراف بوجودها. وعادت قضية المفقودين الجزائريين خلال معركة الجزائر، عقب رحيل مارسيل بيجار في جوان 2010، وطرح فكرة نقل رفاته إلى “البنثيون”، فتم فتح ملف التعذيب خلال معركة الجزائر من جديد، وعادت بعض الصحف الفرنسية منها أسبوعية “لوبوان” للدور الذي لعبه بيجار، فاستعملت مجددا الاستعارة الشهيرة “جمبري بيجار” للحديث عن هؤلاء المفقودين. وبينما حاول عدد من المؤرخين الفرنسيين، وعلى رأسهم “غي بيرفيلييه” التشكيك في العدد الذي قدمه “ايف كوريير” في كتابه استنادا على تقرير “بول تيتغن”، أصر المؤرخ “روبير مينييه” على الاعتراف بصحة العدد المقدم. وكان الجنرال ماسو قد حاول تفنيد ما أسماه مزاعم “بول تيتغن”، وكتب في كتابه “معركة الجزائر الحقيقية” أن عدد المفقودين لا يتجاوز المائتين. وهي المحاولة نفسها التي قام بها العقيد “ايف غودار” حينما نشر كتابه “المظليون في المدينة”، بينما اعترف “هنري بويو” الذي ألحق بفيلا سوزيني خلال أدائه الخدمة العسكرية بالجزائر، في كتاب صدر له بعنوان “فيلا سوزيني”، بوجود “عشرات آلاف من المعتقلين الجزائريين لم يعرف لهم أي مصير، بعد مرورهم بفيلا سوزيني”. للعلم، تعترف دراسات تاريخية فرنسية حديثة أنجزها جيل جديد من المؤرخين، وبالأخص “رفائييل برانش” و”سيلفي ثينو”، بوجود قضية المفقودين، وأشارت إلى أن عدد هؤلاء بلغ ثلاثة آلاف، استنادا على ما جاء في مذكرات أوساريس.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات