38serv
يقطعون مئات الكيلومترات، يلجأون لمستشفيات الجزائر العاصمة بحثا عن دواء يخلصهم من مرضهم، وما إن ينتهي سفرهم الشاق حتى تنطلق رحلة متاعب جديدة يقضونها في التنقل من مصلحة طبية إلى أخرى، فإما الطبيب المختص غائب، أو تاريخ الموعد الذي بُرمج لهم قبل شهور خاطئ وتزامن مع يوم عطلة أسبوع، أو المصلحة الطبية مكتظة والآلات معطلة.. وغيرها من الحجج التي لا تزيدهم إلا مرضا على مرض.كانت الساعة تشير إلى الرابعة من أمسية سبت بارد في المستشفى الجامعي مصطفى باشا في العاصمة، عندما وجدت السيدة صالحي خوجة نفسها مجبرة إما على العودة إلى مسقط رأسها بولاية الشلف أو قضاء الليلة في حديقة المستشفى تصارع ألم المرض من جهة، وقساوة الطبيعة والاحتماء من بردها من جهة أخرى.موعد خاطئ كلفها المبيت في العراء“وجدت نفسي شاردة الذهن في حيرة من أمري، بعد أن تغير البرنامج الذي سطرته قبل مجيئي إلى العاصمة لإجراء عملية جراحية على مستوى عيني”، هكذا استطردت محدثتنا وهي تجلس في حديقة المستشفى وبحوزتها حقيبة أمتعتها، قبل أن تضيف: “حُدد لي موعد قبل 6 أشهر لإجراء العملية، لكنني تفاجأت لدى وصولي بأنهم أخطأوا في برمجة الموعد الذي تزامن مع يوم عطلة أسبوع”.والغريب في الأمر، تواصل السيدة سرد الكابوس الذي عايشته في المستشفى، “لدى وصولي أمام باب المصلحة لم أجد أي شخص في الاستقبال، وبقيت على ذلك الحال لمدة فاقت الساعتين، وفي الأخير أخبروني بأن الطبيب غائب وحددوا لي موعدا آخر لليوم الموالي”.أقرت محدثتنا قائلة: “لست ميسورة الحال لكي أحجز غرفة في فندق، وليس لي أي قريب من العائلة أمكث عنده”، واستبعدت السيدة العودة إلى الديار بولاية الشلف والوصول في ساعة متأخرة من الليل، على أن تستيقظ في صباح اليوم الموالي لشد رحال العودة إلى العاصمة. هذا بغض النظر عن المصاريف الإضافية التي ليس بمقدورها تحملها.تاهت محدثتنا، ووقعت فريسة أفكارها، وبدأ الليل يفرض منطقه، فاستسلمت لأمرها وقررت المكوث في حديقة المستشفى لقضاء ليلة بيضاء، قد ينسيها بردها القارس ألم المرض الذي قطعت من أجله 250 كيلومتر. ولحسن حظها، تواصل السيدة، “تعرفت في المستشفى على سيدة تقطن بحي باب الوادي في العاصمة، وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث وكشفت لها حالي، عرضت علي مرافقتها إلى بيتها لقضاء الليلة”.لكن، لم يتوقف الكابوس عند ذلك الحد، تضيف محدثنا وهي تتذكر متألمة، “فلدى عودتي في اليوم الموالي، صدموني بنبأ غياب الطبيب المختص، وضربوا لي موعدا جديدا على أن أعود في اليوم الموالي”. فما كان عليها إلا اللجوء مرة أخرى إلى السيدة التي آوتها في الليلة السابقة.رضيعة بين الحياة والموت تفترش الأرضحولنا وجهتنا إلى مصلحة طب الأطفال بحثا عن مواطنين تشردوا في وطنهم وسُدت جميع الأبواب في وجوههم، وما هي إلا أمتار حتى لمحنا أحدهم غارقا في سباته داخل سيارة تحمل ترقيم ولاية المسيلة، والمثير في أمره جلب وسادة وغطاء معه، كأنه على علم بما كان ينتظره من معاناة في مستشفيات العاصمة.اقتربت منه بحذر وأيقظته من نومه، لأكتشف أنه يبيت في السيارة منذ يومين داخل حظيرة المستشفى. جاء محدثنا من ولاية المسيلة لمرافقة شقيقته وابنتها زوينة صاحبة الربيع الثاني، التي تعاني من ورم على مستوى رأسها.سألناه عن سبب جلبه للغطاء والوسادة، فتغيرت ملامح وجهه وأطلق تنهيدة طويلة وأخذ يتذكر المأساة التي عاشها قبل سنة بمستشفى مصطفى باشا، ثم استرسل: “سبق لي أن افترشت الكرتون في مدخل مصلحة طب الأطفال رفقة شقيقتي وابنتها، بعد أن رفضوا التكفل بها بحجة أن جميع الغرف مملوءة ولا يوجد سرير شاغر”.قطب محدثنا حاجبيه وواصل حديثه بألم “طلبوا مني اللجوء إلى مستشفى آخر يؤوي الرضيعة التي كانت بين الحياة والموت، فانطلقت في رحلة ماراطونية عبر جميع مستشفيات العاصمة، ولا تنسى أنني أجهل طرقات العاصمة، وهكذا أمضينا الليلة في البحث عن سرير تمكث فيه الطفلة، حتى الساعة الرابعة صباحا، وقتها قررت العودة إلى مستشفى مصطفى باشا وافترشنا الأرض في بهو مصلحة طب الأطفال، أنتظر قدوم رجال الشرطة لطردنا، وبقينا على تلك الحال في ليلة باردة وممطرة ننتظر بزوغ نور الشمس، حتى جاءنا شخص مجهول، واقتادنا إلى غرفة شاغرة في نفس المصلحة التي رفضوا إيواء الطفلة فيها. وكانت دهشتنا أكبر عندما وجدناها مجهزة بكل اللوازم الضرورية، من ثلاجة وفرن.. وحتى التلفاز”.استوعب محدثنا، وقتها، درسا في البيروقراطية وتيقن بأن حياة المواطن البسيط لم تعد مهمة في مستشفيات “المعريفة”، ولدى عودته بعد سنة من أجل إجراء مراقبة طبية للطفلة المريضة، جلب معه غطاءه ووسادته، لأنه حتما سيبيت في الشارع.باع سيارته لإنقاذ أخيهوفي جولة أخذتنا إلى مستشفى اسعد حسني ببني مسوس في العاصمة، جلسنا نتأمل الأجسام المتألمة التي تنتظر دورها في العلاج، كان بينهم أحد يعاني من ورم في دبره أجبره على قطع مئات الكيلومترات من ولاية تمنراست بحثا عن الدواء، وظل المتضرر يئن في قاعة الانتظار منذ الساعة الواحدة زوالا إلى غاية الساعة الرابعة، ينتظر قدوم الطبيب المقيم لفحصه.وأمام ذلك المشهد المؤلم، تدخل أحد أعوان الحراسة الذين يشتغلون في المستشفى بعد نفاد صبره وقرر الصعود إلى مكتب الطبيب المختص وإبلاغه بالحالة الصحية الحرجة التي يعاني منها المريض.يقول عون الحراسة: “كانت الساعة تشير إلى الرابعة ونصف عندما نزلت الطبيبة لفحص المريض”، وأضاف: “وبعد أن فحصته بضع ثوان، وجهته إلى مصلحة طبية أخرى بحي بلوزداد في العاصمة، هذه الأخيرة تغلق أبوابها في الساعة الرابعة، كان يوم خميس وقتها، فوجد نفسه مرغما على المبيت في العراء يومين وانتظار حتى يوم الأحد لإجراء فحوص طبية تشخص له المرض الذي أنهكه”.مأساة ومعاناة جعلت شقيقه الذي رافقه يتخذ موقفا رجوليا لإنقاذ حياة أخيه “فقرر بيع سيارته بثمن بخس ليتمكن من دفع مصاريف الإقامة في فندق وتكاليف العلاج في عيادة طبية خاصة بولاية البليدة، بعد أن فقد الأمل في المستشفيات العمومية”، يضيف محدثنا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات