"ستيفن سبيلبرغ" يبرز تفوق القيم الأمريكية

38serv

+ -

 يبدو جليا، أن المخرج الأمريكي “ستيفن سبيلبرغ” التصق  بالتاريخ، فمنذ فيلم “إمبراطورية الشمس” سنة 1987، الذي يظل أحد أقوى أفلامه، حيث كرسه كمخرج كبير، بعد أن أخفق في كسب ثناء النقاد، رغم النجاح التجاري الضخم لفيلم “أنديانا جونز” في مطلع الثمانينيات، ثم فيلم “قائمة شيندلر” سنة 1993، و”إنقاذ الجندي رايان” عام 1998. ورغم تركه قيمة الحرب العالمية الثانية مع فيلم “لينكولن” عام 2012، وتوجّهه إلى أمريكا ما بعد الحرب الأهلية، ها هو يعود بفيلم “جسر الجواسيس”، إلى فترة الحرب الباردة لإبراز تفوق القيم الأمريكية مرة أخرى.  تناول “ستيفن سبيلبرغ”، في فيلم “جسر الجواسيس” قضية جاسوسية جرت وقائعها سنة 1957. بطل الفيلم كما القصة الواقعية، محامي أمريكي متخصص في القضايا المتعلقة بالتأمينات يُدعى جيمس دونوفان (تمثيل توم هانكس9، تقوم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتعيينه للدفاع عن شخص يُشتبه في أنه جاسوس للاتحاد السوفيتي يُدعى “رودلف آيبل”، يجسد دوره الممثل مارك رايلانس، الذي تحصل بفضله على “أوسكار” أفضل ممثل مساعد.يعتبر “ردولف آيبل” فنانا فاشلا، لكنه جاسوسا حاذقا تلاحقه الأجهزة الأمريكية، وتقوم باعتقاله في شقته بحي بروكلين ويُزج به في السجن، دون العثور على أي أدلة تثبت تورطه، إذ تمكّن من إخفائها في غمرة اعتقاله. وبينما كان المجتمع الأمريكي يتّجه نحو خوض غمار حرب عقائدية مع الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفييتي، لا يجد آيبل من يدافع عنه، فيقرر المحامي دونوفان، من مكتب “واترز، كوان أند دونوفان” للمحاماة التكفل بالقضية والدفاع عن الجاسوس. اتخذ دونوفان هذا القرار بدافع إنساني ومهني، في وقت كانت فيه السلطات الأمريكية تريد الظهور للعالم في صورة نظام ديمقراطي عادل يوفّر حق الدفاع حتى للجواسيس السوفييت، لكن أمريكا التي تظهر في هذه الصورة المثالية، هي نفسها أمريكا غير المتسامحة التي أعدمت مواطنان أمريكيان بالكرسي الكهربائي، هما الزوج “جوليوس وايتيل روزنبرغ” سنة 1953، بتهمة الجوسسة لصالح الاتحاد السوفييتي.وتبرز مهنية “جيمس دنوفان”، من خلال سعيه للدفاع عن موكله عبر اتباع الإجراءات القانونية التي تتُبع لما يتعلق الأمر بأي مواطن أمريكي عادي، فيسعى لتبرئة موكله ويطالب المحكمة بعدم الأخذ بأدلة مفبركة، بدعوى أن موكله تعرض للتوقيف دون وجود أمر بالتفتيش، كقضية مفصلية في القضاء الأمريكي. وهنا يردد دونوفان على مسامع أحد رجال “السي. أي. أي”  تمثيل توم شيبرد “إن ما يميز الولايات المتحدة عن سواها من البلدان يتمثل في استعدادها للعب وفقا للقواعد المتعارف عليها”. وفي هذه اللحظة بالذات، يشعر المشاهد أنه يتعاطف مع  “توم هانكس”، ويقف إلى جانبه في لحظة دفاعه عن القيم التي قامت عليها أمريكا، فيتم استصغار رجل “السي. أي. أي” الذي تحوّل بمجرد جملة وموقف إلى رجل أقل شأنا، رغم أن توم هانكس قدّم هذا الجانب من شخصية “دونوفان” بشكل في غاية التبسيط، وبطريقة أقرب إلى الدعاية الإيديولوجية التي كانت رائجة في أمريكا خلال سنوات الحرب الباردة، فكان تأثيره على المشاهد سياسيا أكثر منه فنيا. ويتضح تفوق توم هانكس أكثر لما يردد، قائلا: “أنا إيرلندي الأصل، وأنت ألماني، لكن ما الذي يجعل كلينا أمريكيا؟ إنه كتاب القوانين. ذلك الذي أسميناه دستورًا، واتفقنا على بنوده، ذاك وحده لا غيره ما يجعل من كلينا أمريكيًا”.بغية إضفاء قليل من الإثارة على الفيلم، لجأ سبيلبرغ إلى “مانوية” كلاسيكية تقدم أمريكا في صورة الخير المطلق”، وتظهر العدو الشيوعي في صورة الشر المطلق، فأسقط طائرة تجسس أمريكية مزوّدة بكاميرات، يقودها طيار يدعى “غاري باورز”، يقع أسيرا بين يدي السوفييت، فتستنجد أجهزة المخابرات الأمريكية مرة أخرى بالمحامي جيمس دونوفان، وتطلب منه السفر إلى ألمانيا الشرقية لإجراء مفاوضات غير رسمية قصد بلورة صفقة تبادل للسجناء، يتم بموجبها مبادلة آيبل بـ“باورز”.  بعد وصول دونوفان إلى برلين الشرقية، يجدها غارقة في بؤس ما بعد الحرب، فيشرع في المفاوضات مع السوفييت. وفي هذه الأثناء، يقع طالب أمريكي بجامعة “ييل” بين يدي أجهزة “الستازي” الألمانية، فيسعى لتحرير كلا الرهينتين الأمريكيتين مقابل تسليم “آيبل” رغم أن رجال “السي.أي. أي” أخبروه باستعادة الطيار الأمريكي فقط، دون الاهتمام بمصير الطالب.وسط أجواء مشحونة تخضع للصراع الإيديولوجي، يقدم توم هانكس على مخاطرة غير محسوبة لا يعلم إن كان سينجو من عواقبها، بيد أن الشيء المهم بالنسبة لسبيلبرغ، هو التأكيد على إظهار الجانب الإنساني في شخص دونوفان، رب العائلة المثالي المُسالم، الذي يترك لصوص ألمان يسرقون منه معطفه، دون أن يبدي أي مقاومة، كما يبرز أهمية امتلاك الفرد الأمريكي تلك القدرة العجيبة على المبادرة واتخاذ القرار، ويتحول الفيلم وفق هذا التصور إلى لحظة عوّدنا عليها سبيلبرغ المهووس بإظهار القيم والمثل العليا الأمريكية.يحمل سيناريو الفيلم الذي كتبه الأخوين “كوهين” حبكة سياسية وتفاصيل إنسانية كثيرة، تتجسد في شخص جيمس دونوفان. وتتفوق هذه التفاصيل  للنموذج الأمريكي على حساب نموذج شيوعي يعتبره الأمريكي بأنه شرير وغير إنساني.اعتمد الفيلم بالأخص على تقنية القطع المتوازي، بيد أن شخصية الطيار “باورز” دخلت بشكل مفاجئ دون أي مقدمات. غير أن التركيز أكثر على القسوة والتعذيب الذي تعرض له على يد السوفييت كان كافيا لاستمالة المشاهد، وشد انتباهه، وجعله ينسى الدخول المفاجئ للطيار “باورز”.واللافت في سيناريو الفيلم كذلك، غياب لقطات الإثارة والحركة التي عوّدنا عليها سبيلبرغ في جل أعماله السينمائية، وبالأخص في فيلم “إنقاذ الجندي رايان”. ويزخر الفيلم بتفضيل واضح وواع لأسلوب الحوار وللأطر الثابتة لتقديم القصة. ويبدو أن سبيلبرغ أراد أن يقول للأمريكيين إن السياسة في نهاية الأمر يجب أن تخضع للحوار والإقناع، فقدّم صورة أخرى عن كيفية التعامل مع الخصم، في أمريكا تعودت على “الخوف من الآخر ومن الخصم” إلى درجة أن هذا الخوف قد يصنع حسب سبيلبرغ تطرفا مماثلا لتطرف العدو، بحيث يتعرض جيمس دونوفان، لسيل من الشتائم ولعنف جيرانه، ويصبح محط نظرات الاحتقار من قبل زملائه في مكتب المحاماة، الأمر الذي يُعرّض حياته وحياة أسرته للخطر. وفي القطار تبحلق فيه امرأة كمحامي خائن يدافع عن جاسوس. كل هذه المواقف التي تعكس انتقال التطرف للمجتمع الأمريكي في لحظة دفاع عن القيم الديمقراطية، تعتبر بمثابة إحدى نقاط قوة الفيلم، التي نقلها سبيلبرغ دون الوقوع في نزعته الدعائية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات