38serv
ساحة حرب أو تكاد، كذلك كان المشهد في مدينة بن قردان منذ فجر الاثنين الماضي.. لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص هنا، وشوارع المدينة المعروفة بالتهريب كانت المهرب الأخير لمجموعة من “عشّاق الموت النذل”، وشارع صرف العملات وسط مدينة بن قردان صار شارعا لصرف الدم، ومنطقة بوجلال تحوّلت إلى ميدان وغى، وحين طلعت الشمس وانكشف النهار، كانت بن قردان قد انتصرت بفخر على جماعات الجهاد من أجل الغيب وتجار الوهم الماسكين الدين من ذيله. فجر الاثنين، استقدمت مجموعة إرهابية بلغ تعدادها 50 عنصرا شحنات من الأسلحة، واعتزمت مهاجمة ثكنة للجيش ومركزين أمنيين. قبل “السيطرة” على أحياء في المدينة، تسلل الإرهابيون إلى قلب المدينة التي تنهض باكرا، وتمركزوا في محاور مختلفة، وسيطروا لفترة على بعض الأحياء قبل بدء “الغارة المشئومة”.كان أذان الفجر الموعد الذي اختاره الإرهابيون لبدء تنفيذ “لعبة الدم”، استزاد الإرهابيون عبارة “الله أكبر” في نهاية الآذان بعد رفعه من أحد المساجد. كان السيناريو المعد لهجوم أشبه بسيناريو نفذه تنظيم “داعش” خلال استيلائه على مدينة الموصل في العراق. خلال ذلك الهجوم، اتجه عناصر “داعش” إلى منازل الأمنيين لاغتيالهم، وكذلك فعل الإرهابيون في بن قردان، حيث توجهوا رأسا إلى بيت قائد وحدة مكافحة الإرهاب وعدد من الأمنيين وتم اغتيالهم، قبل أن تبدأ مجموعة أخرى كانت تتمركز في المسجد المقابل لثكنة الجيش محاولة اقتحام تلك الثكنة.في لقاء “طيور الظلام”يروي مهدي صاحب محل لتصليح العجلات في حي بوجلال القريب من ثكنة الجيش لـ “الخبر”، اللحظات الأولى للهجوم الإرهابي، قائلا “قدمت إلى محلي باكرا كعادتي.. تفاجأت بوجود مسلحين قرب المحل، ألقيت السلام وفتحت المحل.. ساورني الشك في المسلحين، فقررت غلق المحل والعودة أدراجي إلى البيت.. خاطبني أحدهم: لم أغلقت المحل؟ فقلت له لست بصدد الفتح الآن، حينها كشف لي عن هويته: نحن من الدولة الإسلامية، جئنا لتحريركم من الطاغوت”.وواصل محدثنا “رأيت شخصا يحمل قاذفا من نوع آر بي جي، وراعني أن مع المجموعة فتاتين كانتا تغطيان وجهيهما، عرفت لاحقا أنهما الأختين رحمة وغفران شيخاوي اللتين تم القبض عليهما خلال هذه العملية، وكانت وزارة الداخلية التونسية قد نشرت في وقت سابق صورهما كمبحوث عنهما، بعدما أبلغت عائلتُهما مصالح الأمن، وأكدت وجودهما في ليبيا”.ويؤكد جاره محمد ودرني الذي يقيم في مسكن بحي بوجلال لـ“الخبر” “خرجت باكرا من البيت في حدود الخامسة صباحا، لأتبين صوت الرصاص، كانت قوات الجيش قد بدأت في صد الهجوم الإرهابي، وجدت أمام البيت 4 مسلحين، حاول أحدهم الدخول إلى البيت، فيما انزوى اثنان من المجموعة في مكان قريب.. منعت المسلّح من الدخول ودفعته وتصارعت معه، وفككت من صدره حزمة من القنابل اليدوية كان يعلقها على طرف صدره، لكنه ضربني على رأسي بمؤخرة الكلاشنيكوف وفرّ هاربا”.لم تكن أجواء الخوف التي رافقت اللحظات الأولى للهجوم الإرهابي لتمنع الشاب أشرف من الخروج من بيته لاستطلاع الوضع، يؤكد أشرف لـ “الخبر” أنه لم يكن يعتقد أن الأمر يتعلق بهجوم إرهابي، لكن كثافة الرصاص ودوي الانفجارات الناتج عن إطلاق الإرهابيين قذائف تجاه الثكنة والمراكز الأمنية المستهدفة، علق علامات استفهام وتساؤلات كبيرة.يروي أشرف لحظة لقائه بإرهابي كان يختبئ خلف جدار إسمنتي ويغطي نفسه بكومة من الحشيش اليابس، كانت قوات الجيش بدأت تنجح شيئا فشيئا في صد الهجوم الإرهابي، واضطرت الإرهابيين للهروب من المواجهة المباشرة والتفرق والتحصن في بيوت مهجورة. يقول أشرف “توجهت إلى ذلك الإرهابي، كان صغير السن، كنت أخاطبه على مسافة 200 متر أو أقل، قال لي: نحن لم نأت لنقتل الناس، ما يهمنا هم الأمنيون وعناصر الجيش”، طمأنني ذلك وشجعني على أن أطلب منه أن يسلم نفسه للجيش، وسألته لم تحاول أن تقتل الناس أو تُقتل؟ لم يرد علي لكنه طلب مني أن أتقدم إليه.. تشجعت وفعلت ذلك، لكنه صمت، لم يرد على أسئلتي، وما هي إلا لحظات حتى انفجر شيء تحته، ربما كانت قنبلة يدوية لم يحسن الإمساك بها، قبل أن تفجر قنبلة ثانية ويُقتل.. حين تقدمت إليه وجدت عينيه مفتوحتين وبالقرب منه سلاح كلاشنيكوف”.ويضيف شقيق أشرف “ذلك يؤكد أن المجموعة المهاجمة لم تكن محترفة.. أتصور أنهم لم يتلقوا تدريبات كافية على الأسلحة أو تكتيكات الحرب.. من رأيتهم والتقيت بهم كانوا بين 17 و22 سنة”، وأضاف “أتذكر أن شابا يافعا أسود اللون كان يسوق دراجة نارية لم يكن يحمل سلاحا، هو من كان يوزع عليهم الذخيرة”.سألت محدثي إن كانت تلك اللحظات المشوبة بالخوف قد أتاحت لهم التعرف على جنسيات الإرهابيين، يؤكد محمد وأشرف ومهدي أن أغلب الإرهابيين من أبناء المنطقة، لكن من بينهم جزائريون وليبيون. سألتهم كيف عرفوهم، فأكدوا أن اللهجة كانت تدل على ذلك، “أحدهم قال لنا: نحن لم نأت لنقتل السكان، جئنا لنقاتل الطاغوت من الأمن والجيش، نحن جنود الدولة الإسلامية وجئنا لنحرركم فلا تخافوا”، وقال مهدي “سألني أحدهم: لم لا تحارب معنا؟ أنا جئت من الجزائر لأجاهد من أجلكم”.هجوم إرهابي كالذي شهدته بن قردان لا يمكن حدوثه دون دعم لوجستي ومعلوماتي من داخل المدينة، يؤكد بعض المسؤولين الأمنيين الذين أتيحت لنا فرصة لقائهم أن هناك عناصر وخلايا نائمة ساعدت الإرهابيين. مكنت التحقيقات مع الإرهابيين السبعة الجيشَ والأجهزة الأمنية من معلومات مهمة، بكشف 5 مخابئ كانت بها كميات رهيبة من الأسلحة، إضافة إلى عدد من العناصر والناشطين في دعم المجموعات الإرهابية. أحد الناشطين في الخلايا النائمة التابعة لتنظيم “داعش” كان يبيع الخضروات في سوق وسط المدينة، لا أحد من جيرانه في المسكن أو في زملائه في السوق كان يعتقد أنه كذلك، كانت صدمة كبيرة للجميع حين أعلن عن العثور على كميات ضخمة من الأسلحة في بيته، كون الرجل لم يكن يظهر عليه أي توجه أو علامات قد تقود شكوكا باتجاهه.في جنازة “العرسان”لم تكن استفاقة سكان بن قردان الاثنين الماضي مثل نهاية اليوم ذاته، كان صوت الرصاص الذي أفاقهم قد انتهى بانتصار كبير دحرت فيه قوات الجيش والأمن، مدعومة من قبل السكان، المجموعةَ الإرهابية التي تكبدت في اليوم ذاته 37 من عناصرها، وتم القضاء على أكثر من 10 عناصر في اليومين اللاحقين، لكن هذا النصر لم يكن دون تكلفة، فقد دفعت المدينة 7 من سكانها في هذه “الغزوة المشئومة”، إضافة إلى 12 من العسكريين والأمنيين، كان الشعور بالألم للضحايا مشفوعا بدحر الإرهابيين وردهم على أعقابهم. خلال اليومين التاليين للهجوم الدامي ظل الرصاص سيد الموقف، كانت الاشتباكات متواصلة في بعض التقاطعات، حيث كانت قوات الأمن والجيش قد استعادت زمام المبادرة وسيطرت على الوضع بالكامل، وانتقلت من حالة “صد هجوم” إلى حالة “تفكيك وملاحقة” مجموعات صغيرة من الإرهابيين الذين تفرقوا وتحصنوا في بعض مباني المدينة..حين وصلنا إلى بن قردان كان صوت الرصاص “يلعلع” قرب ثكنة الجيش، حيث كان العساكر يلاحقون 3 إرهابيين استسلموا أخيرا للمصير المحتوم. كانت هذه الاشتباكات تتم “بحضور الجمهور”، فقد تجاوز السكان حالة الخوف، وباتوا في عضد الوحدات الأمنية والعسكرية، وقريبين من كل مواجهة مفتوحة مع الإرهابيين.في تلك الأثناء، كانت المدينة قد أفرغت شوارعها من الناس إلا قليلا، أغلقت المدارس أبوابها، والمؤسسات الإدارية الرسمية والخدماتية، ولم تفتح المحلات والمتاجر، وتجمدت حركة السير والنقل من وإلى المدينة، وتوقفت الحركة فيها وهي التي ما تعوّدت أن تنام، وتسري في أحشائها شبكات التهريب التي تبدأ عادة يومها باكرا.. بدت بن قردان مشلولة كعجوز ترقب انكشاف النهار.وبقدر ما كانت المدينة تنتظر انكشاف غبار المعركة المشرّفة، بقدر ما كانت القلوب تخفق انتظارا للحظة تشييع الشهداء إلى مثواهم الأخير. عندما وصلت سيارات الإسعاف إلى المستشفى الجهوي ببن قردان، كان المشهد متداخلا، انفطرت فيه القلوب وفاضت فيه المشاعر، واختلطت فيه الفرحة بالحزن، والألم بالأمل، وانكمشت فيه الضلوع، وطغى نسيان الذات، وتقاتلت الدموع مع الدموع.. كانت الجموع الغفيرة تهتف “أوفياء أوفياء لدماء الشهداء”. وفي المقبرة كان الشعار نفسه حين وصلت النعوش إلى مطارها الأخير، كانت الرؤوس تتعالى لإلقاء نظرة على جثامين “العرسان”، وكانت الأيدي تحارب الأيدي لتفوز بمساحة أصبع في النعش المسجّى الموشّح بالراية الوطنية، فتلك لحظة شرف، ومن فاز بشرف حمل الجثامين كان سيد الموقف. لكن سيد المقبرة كان الإمام، حين كبّر الإمام سكتت الألسن، وارتبطت بالذي يزف إليه الشهداء، لا صوت إلا صوت الدعاء للعرسان الجدد.. كنت حينها أرقب عيون أقرباء الضحايا الذين صُب عليهم الصبر صبا، فلم تدمع لهم عين، كأن لم يكن لهم جرح، جرحهم المشطور على كل تونس، لم يكن لهم نصيب كبير من الألم، فقد انحازت كل شوارع مدينة بن قردان وكافة المدن في تونس إلى جرحهم العميق.سارة الموثق.. أصغر الشهداءأكثر ما كان يؤلم الناس في مدينة بن قردان مقتل سارة الموثق الفتاة البالغة من العمر 12 سنة، تلك كانت أصغر شهداء “غزوة تجّار الدين”، كانت سارة بحسب والدها الذي حضر إلى المقبرة متعبا من انكسار حلمه في رؤية ابنته في الجامعة، كانت متفوقة جدا في دراستها ورسامة أيضا، لكن الموت كان يرسم لها قدرا غير الذي كانت تبغيه، والطيور التي كانت ترسم في أوراقها البيضاء استحالت إلى “طيور ظلام” تشتري الوهم وتبيع الموت وتصرف أحلام الناس إلى دم، حين شيعت جنازتها كان والدها قرب نعشها يلامس شيئا منها للمرة الأخيرة، كانت تلك المشاهد تستفز وتستدعي إلى الذاكرة مشاهد الدم والجنازات في سنوات الدم التي عاشتها الجزائر قبل عقدين، حين كان الإرهاب يقطف زهرة شباب الجزائر ويافعيها، في لعبة تداخلت فيها عوامل التهور مع التسلط، وكهنوت الدين مع رهبان السلطة.اللعبة المتشابكةلا ينفصل الهجوم الإرهابي في بن قردان عن جملة من الملابسات والظروف التي تحكم منطقة بن قردان، فالمدينة لا تبعد سوى 14 كيلومترا عن المعبر الحدودي راس جدير المؤدي إلى ليبيا، ولا تبعد سوى بأقل من 40 كيلومترا عن مدينة زوارة أول مدينة ليبية بعد الحدود مع تونس. من هذه المدينة يمر 40% من الاقتصاد التونسي، تصنع المنطقة التي تفتقد لمصنع أو مركب اقتصادي لنفسها نموذجا اقتصاديا حرا، اقتصاد خارج الإطار الرسمي، تشكل ليبيا رصيده الأول، إذ تعبر أطنان من السلع المهربة من تونس إلى ليبيا أو من ليبيا إلى تونس، لتحط في السوق الكبير للمدينة، وجزء كبير من هذه السلع ينقل إلى أسواق العاصمة تونس.تمثل بن قردان “إمبراطورية للتهريب” وترقد على مخزون هائل من الوقود المهرب من ليبيا، والذي يعرض للبيع على طول امتداد الطرق والمداخل الرئيسة للمدينة، ويتوسطها شارع ممتد لسوق موازية لصرف العملات، لكنها تعري في الواقع إخفاق السلطة المركزية في التحكم في المناطق الحدودية، والفشل في إدماج هذه المناطق ضمن الحركية الاقتصادية بالشكل الذي يتيح لسكان هذه المناطق الاستفادة من هذه الحركية، ويسمح للخزينة العمومية تحصيل نسب عالية من الجباية. وتعترف الحكومة التونسية بأنها تسعى إلى خفض نسبة الاقتصاد الموازي في تونس إلى حدود 20% في أفق سنة 2020.تجمع بعض التحاليل على أن المجموعة الإرهابية التي دبرت ونفذت الهجوم الدامي ربما تكون وضعت بعض الحسابات الخاطئة التي لم تأخذ الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.يؤكد الناشط المدني مصطفى عبد الكبير لـ “الخبر” أن الإرهابيين ربما كانوا يعتقدون أن المنطقة قد تكون حاضنة لهم، نظرا لمشكلات التنمية التي تعرفها المدينة كأغلبية مدن الجنوب، نتيجة الإهمال والتهميش الذي عانت منه من قبل الأنظمة التي حكمت تونس منذ الخمسينات، كما أن علاقتها المشوشة مع السلطة المركزية والمؤسسة السياسية وحتى المؤسسة الإعلامية قد تدفع المنطقة إلى التواطؤ مع المجموعات الإرهابية، خاصة أن بن قردان على غرار عدد من مدن الجنوب كانت انتفضت ضد خطابات الرئيس السبسي خلال الحملة الانتخابية للرئاسيات نهاية 2014، كما شهدت سلسلة احتجاجات ضد خطابات إعلامية وسياسية كانت تتهم المنطقة بالتواطؤ مع الإرهاب، بسبب عمليات تهريب السلاح والمتشددين من وإلى تونس. يعتزم سكان بن قردان ترسيخ وسم “الملحمة” على مجريات الاثنين الدامي، ويعتقدون أن صد المدينة والسكان ودعمهم الحاسم لقوات الجيش والأمن، سيدفع المجموعات الإرهابية إلى مراجعة حساباتها إزاء المنطقة، ويقطع بشكل نهائي مقولات سياسية وإعلامية للمحليين المشبعين بالديماغوجيا والسياسيين المتخمين، والتي تتهم منطقة بن قردان القريبة من الحدود الليبية ومناطق الجنوب التونسي باحتضان الإرهاب، وفقا للتحليلات التي تضع تقاطعات بين الإرهاب والتهريب، كما ستدفع إلى وضع خط فاصل بين الإرهاب والتهريب، ذلك أنه بحسب السكان فالتهريب واجب معيشي تفرضه ظروف العيش وانعدام مناصب الشغل في المنطقة، والمهربون يقتاتون على تهريب الوقود والسلع من وإلى ليبيا، دون التورط في لعبة تهريب السلاح والمخدرات، فذلك بالنسبة لهم “خط أحمر” لا يمكنه أكل الخبز الملطخ. لكن السلطات التونسية لا تبدو مقتنعة بهذا، وتبقي مخاوفها من استغلال المجموعات الإرهابية للمهربين للتزويد بالسلاح والمؤونة والمعلومات.تبدو اللعبة معقدة ومتداخلة ومتشابكة في تلك المنطقة الحدودية، وزادها تعقيدا توتر الأوضاع في ليبيا وتفكك الدولة، لكن سكان بن قردان يؤكدون أن أهم منجز تحقق الآن هو انكسار شوكة “داعش” عند حدود المدينة، في انتظار أن تفي السلطات التونسية بوعودها في التنمية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات