المركز الثقافي خديجة دحماني.. منارة ثقافية وصرح هندسي نادر

38serv

+ -

يعد المركز الثقافي خديجة دحماني ببلدية سيدي عيسى، 100 كيلومتر إلى الغرب من عاصمة الولاية المسيلة، تحفة معمارية قلّ أن ينافسها بناء في الجزائر، وحتى في العاصمة التي يحدث أن تستحوذ كل مرة على الميزانيات الهائلة لبناء قصور تظل في الغالب مجرد كتل إسمنتية، توحي لزائرها أن وجوده في داخلها لا يختلف كثيرا عن تواجده داخل مقر إدارة عمومية أو خاصة.. حتى يثبت العكس، يبقى المكان الأفضل والأروع والأمثل الذي يعطيك كل الانطباع بأنك داخل منظومة متحركة، كل ما فيها يوحي بالفعل أنك في هيكل ينبض بالحياة، وهي التحفة المعمارية التي استأثرت لنفسها بحق احتضان أبناء المدينة، كتّابها، مبدعيها من شعراء وأدباء مفكرين، أثّروا في الحياة الثقافية للوطن، فكان العرفان بأن حملت كتبهم، إنتاجاتهم، وأسماؤهم على ظاهر هذا المبنى.. إنه تكريم من نوع خاص، ويا له من تكريم!حقّ لسيدي عيسى أن تفتخر بصرحها الثقافي..عندما التقيت الكاتب الصحفي والأديب المهدي ضربان صاحب “نياشين اللعنة” والمشرف على موقعي “أصوات الشمال” و “سيدي عيسى فضاء روحاني بأسماء من ذهب”، للحديث عن فكرة وإخراج هذه التحفة المعمارية التي تسمى المركز الثقافي خديجة دحماني، قال لي في زهو وفخر “حق لسيدي عيسى أن تفتخر بصرحها الثقافي الجديد”.المركز الثقافي الشهيدة خديجة دحماني منارة ثقافية من طرز معماري نادر في الجزائر، وتستوقفك هندسته كي تعيش رؤية معمارية وفنية متناسقة في البناء والهندسة والتشكيل. “لم يكن المركز الثقافي الذي بُني عام 1985 على الشكل الذي هو عليه الآن، بل كان الخجل ينتابنا حين نسميه موقعا ثقافيا، نظرا لأنه كان لا يلبي شروطا ثقافية واعية في التنشيط وفي الهيكلة.. كان مجرد بناية ليس فيها تلك الروح الثقافية التي تعطيك عبقا للتنشيط الثقافي، وللمكانة المحترمة التي يتسنى للمبدع وللمثقف رسم معالمه الإبداعية فيها.. ومع مرور السنوات، تحول إلى مرتع لا يليق بكلمة الثقافة ولا بالمثقفين، وصار لا يستوعب أي فعل مهما كان نوعه”.لقد عانت سيدي عيسى الكثير وهي العامرة بالمثقفين والأدباء والمبدعين من مختلف الأعمار، من أجل احتواء زخم المدينة وتراثها، وكذا بالنسبة لإرث الأجيال التي سبقت، وهي الحالمة دوما بالعثور على منصة إقلاع حقيقية، كثيرا ما تعشق الأسماء والأوزان الفكرية الحضورَ إليها من هنا وهناك، ولكن كانت دوما المصيبة في مكان دافئ يحضن هذه الأفكار ويجعلها تنمو بسرعة، إلى أن جاء رئيس المجلس الشعبي الحالي.وقبل أن يُنصب على رأس عمله، حدث أن دُعي للمشاركة في احتفالية الشهيدة شهيدة الكلمة خديجة دحماني في ذكراها السابعة عشر، هناك سأله مثقف عن الثقافة، فأجاب رئيس المجلس الشعبي البلدي “أنا لا أستطع أن أدعم أو أعيش حراكا ثقافيا إلا إذا تغير شكل هذا المركز الذي يبدو أنه لا يليق بالثقافة والمثقفين”. وفعلا بعد تنصيبه مباشرة عمل على أن يتغير شكل المركز الثقافي، ودُشن رسميا في 8 مارس 2015 وصادف ذلك الاحتفاء بعيد المرأة.ويقول الكاتب المهدي ضربان “إن كان من فضل فيعود أولا وأخيرا إلى رئيس البلدية الحالي عيسى عماري، فقد عمل على وضع مدينة سيدي عيسى، من خلال إنشائه لهذا الصرح ودعمه له، في خانة التميز من جهة، كما يُحسب له وللعديد من المثقفين اقتراحُ اسم شهيدة الكلمة ابنة المدينة خديجة دحماني التي اغتالتها أيادي الغدر، على غرار العشرات من أصحاب مهنة المتاعب الذين دفعوا ثمن الاقتران بالمهنة. كما أهدى للمدينة مناسبة كي تنعم سيدي عيسى بصرح ثقافي جميل، والأجمل أنه تحوّل إلى علامة تحسب للمدينة دون سواها من المدن، فإذا كان لمقام الشهيد نكهته بالعاصمة، فلسيدي عيسى هذا البناء الذي لا يحيد عن ذاكرة زواره أبدا، ولا يمكن فصله هو الآخر، كلما تجلت المدينة في العيون والأفئدة، تجلى هذا المكان هو الآخر كالجسد والروح لا يمكن أن ينفصلا”.هندسة ساحرة..وأنت تقترب من واجهة المركز الثقافي بسيدي عيسى، تستشعر حالة من الانبهار بهندسته الساحرة، وتزداد انبهارا عندما تعانق التفاصيل الصغيرة التي بُنيت عليها تلك الواجهة التي تخلد كتبا وإبداعات لكتاب سيدي عيسى، من أمثال الروائي العيد بن عروس، والدكتور آيت سيدهم سليمان، والدكتور عيسى داويدي، والروائية الإطراب بولعرابي، والدكتور نذير بوصبع، دون أن ننسى علما من أعلام سيدي عيسى الوزير الراحل مصطفى الأشرف.والمركز به بهو موشح بجداريات وسرايا مطرزة بالنحاس، من تصميم الرسام العالمي ابن منطقة سيدي عيسى دنيدني سعيد، وقاعة كبيرة، وقاعة استقبالات شرفية، وأجهزة صوتية حديثة من أعلى طراز، ومنمنمات في جدار القاعة الكبرى بزخم فني راقٍ، أبدع فيه المهندس الفنان محمد بلقرطبي.. فضاء يرسم التاريخ ولسان حاله “لا تنسوا أبنائي”.خديجة دحمانيلم تأت تسمية المركز الثقافي باسم شهيدة الكلمة خديجة دحماني اعتباطا أو من قبيل الصدفة، فابنة سيدي عيسى التي اغتالتها أيادي الغدر في 5 ديسمبر 1995، كثيرا ما كان اسمها يتردد في أوساط المثقفين والإعلاميين، كانت واحدة من الصحافيات اللائي التصق اسمهن بسيدي عيسى، حيث كانت تسعى وتتمنى أن تزدهر مدينتها وتصبح في مصاف المدن المتطورة، وهي لم تكن تدري أن اسمها سيكون رمزا لأجمل بناية في سيدي عيسى بُنيت بعد الاستقلال. وبعد تدشين المركز الثقافي بحلته الجديدة، كانت فرصة، يقول الإعلامي المهدي ضربان، كي يطلق اسمها على بناية معمارية تحمل زخما عمرانيا مثلما تحمل الصحفية شهيدة الكلمة خديجة دحماني اسما في الساحة الإعلامية الوطنية، يومها كتبت الشهيدة أنواعا صحفية تؤسس لميلاد صحفية من النوع الذي في داخله ما يرسم الإضافة ويعطي المعنى عبر وعي الكلمة، وعبر تفاصيل هي عين اللغة الإعلامية، حيث، ولهاجس يسكنها، كانت تراسل الشاعر أحمد مطر تريد منه حوارا صحفيا، يسترسل أمين تحريره آنذاك الكاتب الصحفي الروائي المهدي ضربان ابن بلدتها سيدي عيسى، حيث عايشت طيلة أسابيع مراسلات مع أحمد مطر، وفعلا وعبر الرسائل المتبادلة تحصلت منه على ديوانه الأخير وقتها واسمه “لافتات”، ونجحت خديجة دحماني في أن تسكن قلب القارئ الذي عرفها صحفية تعرف كيف تكتب خاصة الاستطلاعات والتعليقات التي اشتهرت بها، واليوم نحن نعيش مع اسمها حراكا صنعته بعد أن دشن المركز الثقافي باسمها تيمنا برؤية كانت تسكن وقتها فكر من كانوا يطمحون ليتبوَّأ اسم هذه الشهيدة مكانة في زخم شخوص سيدي عيسى.وفي تاريخ تدشينه في 8 مارس 2015، أصبح المركز يحمل اسمها، واستقر الرأي على أن تكون نشاطاته بنفس مستوى ما كانت تحمله خديجة من هم إعلامي يواكب حراك الإعلام المحترف والصادق.هكذا التخليد وإلا فلايقول الكاتب المهدي ضربان إنه كان شاهدا على روح ابنة بلدته وصديقا لها في الحرف والمعنى، كانت ترسم له معارفها وتحاول أن تبين للهيئة التحريرية أنها قادرة على الكتابة في الثقافة، ونجحت في ذلك. “وقبلها كنتُ في رائدة المجلات الجزائرية، مجلة الوحدة، المدرسة الإعلامية الشهيرة التي أنجبت إعلاميين كبارا قاموا كلهم بتأسيس جرائد ويوميات وطنية معروفة”.. المهدي المعروف بروايته التي طبعت في إطار الجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2007 واسمها “نياشين اللعنة”، وفاز في عام 2006 بجائزة وزارة المجاهدين للرواية عن رواية “تراتيل المكان”، وصاحب الموقعين الإلكترونيين الأشهر على الصعيد العربي أحدهم اسمه “سيدي عيسى فضاء روحاني بأسماء”، والآخر اسمه “أصوات الشمال”، يؤكد ولا يزال أن التأسيس لحراك ثقافي جدي وواع في سيدي عيسى بات وشيكا وحاضرا، في وقت تنعم المدينة بأول مسؤول منتخب في الجزائر يفكر في إنشاء مركز ثقافي تحفة بكل المقاييس، بخلاف المسؤولين الذين اعتادوا تهميش الثقافة، “من شأنه أن يؤسس لعهد ثقافي جديد وواعد بنفس البصمات العمرانية والفنية التي نعيشها ونعشقها في كل مرة عايشنا صورة المركز الثقافي خديجة دحماني الذي يظل الأرقى والأروع على الإطلاق”، في انتظار أن ينصب مدير مثقف على رأسه يحمل في القلب والوعي والإدراك شغف الفعل الحقيقي لمعنى الثقافة، وفي انتظار أيضا أن يرقى المكان إلى تاريخ شهيدة الكلمة خديجة دحماني وأعلام المدينة المخلدين على الواجهة وهم كثير.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات