38serv

+ -

 عندما تعلن السلطات أنها شنت حربا للقضاء على معاناة المواطن في استخراج الوثائق الإدارية من عدة جهات، وإضاعة الوقت الطويل في بيروقراطية مرهقة، وأنها قامت بإلغاء ختم المصادقة وتمديد صلاحية شهادة الميلاد وغيرها، يصدم المرء حين يجد ذلك كله “جعجعة بلا طحين” في الواقع، حين يجد على أبواب المستشفيات والمحاكم ومقرات البلديات والدوائر وحتى مخافر الشرطة، أناسا تنزل من عيونهم الدموع ويتصبب العرق من على جبينهم، وهم بصدد استخراج وثائق متعددة لشهادة وفاة شخص عزيز عليهم، ربما تطلب نقل جثته لمعاينة الطبيب الشرعي على مئات الكيلومترات، وبعدها شهادة الوفاة، والتصريح بنقل الجثة، وتشميع الصندوق، وحتى الوثائق يجب أن تكون موقعة من وكيل الجمهورية، ورئيس الدائرة، ومحافظ الشرطة، ورئيس البلدية، وهذا عندما نكون في يوم عمل، فما بالك عندما يكون اليوم عطلة نهاية أسبوع أو مناسبة من المناسبات، أو يغيب الطبيب الشرعي أو وكيل الجمهورية، أو يكون الوقت ليلا.!من يتتبع خطوات الإجراءات المطلوبة والوثائق المفروضة لاستخراجها عند وفاة شخص من أجل السماح بدفنه أو نقل جثته من مدينة إلى أخرى على مستوى الجزائر، يندهش للتعقيدات البيروقراطية التي تفوق حدود المعقول، لأن الأمر يتعلق بميت كرامته التعجيل بدفنه، وتسهيل كل الإجراءات على ذويه المجروحين منذ أن يبلغهم نبأ الوفاة، لتصدمهم مختلف الإدارات بوثائق تبدأ من المستشفى بضرورة استخراج شهادة الوفاة من طرف طبيب يجب أن يعاين جثة الميت، وفي حال وجود أدنى شك لدى الطبيب تبدأ رحلة أخرى مع أهل الفقيد تشترك فيها محاضر الشرطة والطبيب الشرعي الذي تنقل له الجثة، وبناء على شهادة الطبيب تباشر عملية تسجيل شهادة الوفاة، وإخطار وكيل الجمهورية في كل المراحل ثم تبليغ الشرطة والترخيص بالدفن، وهي رحلة تستغرق في أحسن الأحوال يومين اثنين، فما بالك بمن وافاه الأجل أيام عطلة نهاية أسبوع أو مناسبة دينية أو غيرها، أو إذا عثر عليه مقتولا وغيرها من الحالات التي تستدعي التحقيقات، حينها يكون مفروضا على أهل الميت البكاء حزنا على فقيدهم وأسفا على بيروقراطية قسّمتهم بين إدارات متباعدة من المستشفى والطبيب الشرعي إلى وكيل الجمهورية إلى الشرطة والدائرة والبلدية، ولنا أن نتصور حالة أهل الميت، خاصة إذا كانوا من سكان البلديات التي لا يتواجد بها طبيب شرعي ولا محكمة ووكيل جمهورية ولا مقر دائرة وكيف يكون عذابهم.“4 أيام انتظار لدفن ابنيلأني وجدته ميتا داخل شقته”يقول أحمد وهو في منتصف الخمسينات إن ابنه كان بشقته نائما لوحده، لأن زوجته كانت بالمستشفى حديثة الولادة، وهو فتى مستقيم السلوك، تفقدناه بعد طول انتظار لكن هاتفه لا يجيب، ولا أحد رآه، وحين كسرنا باب الشقة وجدناه ميتا وقد سال بعض الدم من فمه، تفقدنا هل من آثار ضرب أو دخول من نافذة، وجدنا الأمر عاديا، وكان الوقت صيفا وباب الغرفة مفتوحا فلا شكوك حول تسرب الغاز، أبلغنا الحماية المدنية فحملته ناحية المستشفى، ولعل الطبيب بعد المعاينة سجل بأن الوفاة مجهولة، وبحكم أن سكننا ببلدية تبعد عن عاصمة الولاية بنحو 100 كم نقلنا الجثة إلى الطبيب الشرعي من أجل تحديد سبب الوفاة، وأقر بأنها جراء ضغط دموي شرياني، واستغرق يومان آخران بحكم أن القضية أخذت منحى آخر لدى وكيل الجمهورية بالمحكمة الموجودة بعاصمة الولاية أيضا، وهي بعيدة عنا، وتنسيق مع الشرطة، وكأن هذا الميّت الشاب قد ارتكب جريمة شنعاء أو كأنه إرهابي، وهو الذي رزق ولدا لم يره ولم يفرح به، وترك زوجة في ربيع العمر لم نبلّغها بعدُ نبأ وفاة زوجها حفاظا على مشاعر والدة جديدة مازالت في مرحلة النّفاس، وكان اليوم الرابع ما بين المحكمة وحمل شهادة الوفاة ثم الذهاب بها إلى بلدية عاصمة الولاية وليس بلديتنا الأصلية، وهذا من أجل استخراج التصريح بنقل الجثة من طرف الدائرة بعاصمة الولاية، ثم التوجه إلى مقر الشرطة لتسليم المحضر وترخيص نقل الجثة، ثم مرافقة عون من أعوان الشرطة إلى المستشفى لتشميع الصندوق بالشمع الأحمر، ومن ثمَّ الخروج به في سيارة إسعاف، وحتى عند وصولنا إلى بلديتنا لا بد من التوجه إلى مقر الشرطة لفك التشميع وتسليمهم نسخا من المحاضر، ولدى وصولنا بالجثة كان الليل قد حلّ، وبين دموع الحزن والأسف وتأوهات التعب قمنا بدفنه ليلا بعد 4 أيام من الجري والمعاناة بسبب كل هذه التعقيدات البيروقراطية.ويضيف أحمد أنه كان محظوظا بأن الأيام التي توفي فيها ابنُه كانت كلها أيام عمل، لأن هناك من يصادف عطلة فيغيب عنه أحد أطراف هذه المعادلة فيبقى في الانتظار وجثث بالعشرات مرمية في ثلاجات حفظ الجثث، ويتمنى أحمد المفجوع في ابنه لو أن السلطات قدمت خدماتها للأموات قبل الأحياء، وبإمكانها بقرار واحد وسهل خلق مكتب موحد في كل مستشفى أو مجمع صحي، يضم ممثلين عن المحكمة والبلدية والدائرة والشرطة ولديهم أختام محددة بعبارات معينة تختصر على أهل الأموات الجري بين عدة إدارات، ويعمل هذا المكتب بنظام التناوب على مدار الأيام والساعات والعطل دون انقطاع، إلى جانب نشر الأطباء الشرعيين وتعميمهم في أكبر عدد من عواصم الدوائر على الأقل.ولعل قصصا من هذا النوع وأكثر منه متواجدة بقوّة وتسجلها مختلف البلديات والمستشفيات، ويحدث ذلك أيضا مع الصبي الصغير الذي لم يرتكب جريمة، ولعل مجرد سقوطه أو وجوده ميتا في فراشه يتطلب رحلة مكوكية من هذا النوع، وكثير من الصبيان قضوا نحبهم في حضن أمهاتهم، ومع ذلك وجدوا أنفسهم في متاهات الطبيب الشرعي ومصلحة حفظ الجثث، وأصبحوا نادمين على تبليغهم نبأ وفاة ابنهم للمستشفى ليجدوا أنفسهم في دوامة من المعاناة. حتى وصل الأمر بإحدى السيدات أنها أوصت أهلها إذا ماتت يدفنوها ليلا ولا يبلّغون أو يخبروا حتى البلدية عن وفاتها لأنها لا تريد أن تتعذب بين الصناديق وثلاجات حفظ الجثث.متى تحفظ حرمة الأموات وكرامة الأحياء؟مازالت السلطات المعنية لم تعالج الأمر أو تجد له حلولا، رغم ما تدّعيه بأنها بدأت في اختصار الوثائق وحذف بعضها أو تجميعها في وثيقة واحدة، وتقريب الإدارة من المواطن، وما اقترحه أحمد وكثيرون يأملون مثله يكون حلا سليما يحترم حرمة الأموات ويعين أهله على تحمّل دموع الحزن عليه فقط، دون إخضاعهم لمشاق كثيرة كمسلمين يدركون أن إكرام الميت التعجيل بدفنه، وما تقوم به عدة وزارات من تطبيل للبطاقة البيومترية لا يساوي جناح بعوضة من التسهيل في إجراءات دفن الأموات، لأنهم سيكونون هم يوما على مشرحة الطبيب وفي ثلاجات الجثث، ويتعذب أهلهم وذووهم، ويتأسفون عليهم لأنهم كانوا يوما ما في السلطة ولم يفكروا في سن قوانين تيسر على الناس وعلى أنفسهم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات