38serv
قد لا يصدق المرء ما حدث لكاتب السيناريو الأمريكي “دالتون ترامبو”. ففي الأربعينات، لما كانت أمريكا برمتها تحارب “الشيطان الأحمر”، سُجن بسبب تعاطفه مع الحزب الشيوعي الأمريكي، وتعرض لأبشع أشكال المتابعة والتحقير، بمجرد أنه وقف ضد أن يُخول الكونغرس الأمريكي لنفسه حق متابعة الأمريكيين في قناعاتهم السياسية. وترامبو، هو أحد أشهر كتّاب السيناريو في هوليوود الأربعينات. كتب تحفا سينمائية خالدة من “عطلة رومانية”، إلى “سبارتاكوس”، و«اكزوديس”، لكنه أجبر على إمضائها بأسماء مستعارة، بعد أن قضى إحدى عشرة شهرا في السجن، عقابا له على تعاطفه مع اليسار الأمريكي.يعود فيلم “ترامبو” للمخرج الأمريكي “جاي روش” لصفحة سوداء ومأسوية مر بها التاريخ الثقافي والسياسي الأمريكي، عبر التوقف عند معاناة كاتب السيناريو الشهير “دالتون ترامبو” (1905- 1976)، وما تعرض له من قسوة من قبل المحافظين على “طريقة العيش الأمريكية”، وهم يحاربون فكرا يساريا يعتبرونه ديكتاتورية مقيتة، بممارسات لا تقل تطرفا وديكتاتورية، في عز “المكارثية”.ويستعيد الفيلم ذكرى “القائمة السوداء” في هوليوود التي قادت إلى تدمير كتاب وممثلين الموهوبين بسبب تعاطفهم مع الشيوعية أوانتمائهم لها.يسرد الفيلم الذي ألفه “جون ماكنمارا”، استنادا لكتاب “بروس كوك”، معاناة “ترامبو” عبر العودة إلى أمريكا التي استرجعت وجهها البيوريتاني، المتطرف والمتعصب، عقب الحرب العالمية الثانية للوقوف في وجه العدو الشيوعي. وفي أجواء استوديوهات هوليود، التي عرفت جانبا من الحرب المعلنة التي شنها “البوريتانيين الجدد” على كتّاب السيناريو، والممثلين، والمخرجين، يظهر “ترامبو” الكاتب الذي حقق لنفسه شيء من النجومية بعد أن كتب سيناريوهات أفلام مثُل فيها كبار الممثلين الأمريكيين في مطلع الأربعينات.“جون واين”... وجه “المكارثية” المخيفتبدأ قصة الفيلم من تصوير أحداث أحد الأفلام التي يؤدي دور البطولة فيها الممثل “ادوارد. ج. روبنسون”، حيث يُردد المخرج، وهويوجه كلامه لترامبو”هوموجود بيننا، لكنه لا ينتمي إلينا”. يشعر “ترومبو” بالحرج، ويدرك أن هوليوود بدأت تنظر إليه بعين الريبة بسبب قناعاته السياسية. وفي إحدى السهرات تلتقط الناقدة السينمائية “هيدا هوبر” (تمثيل هيلان ميران)، كلاما يقنعها أن “ترامبو” ينتمي فعلا إلى “شلة اليسار”. وفي إحدى وقائعها على شاشة العرض تتهم “ترامبو” بأنه يقف وراء تجمع نقابي لممثلين أمريكيين طالبوا برفع أجورهم. يُتابع “ترامبو” تهمة “هيدا هوبر”، التي تمثل أمريكا غير متسامحة ومتطرفة، وسليطة، وهو جالس بقاعة السينما رفقة كل أفراد عائلته. وعقب انتهاء العرض يتعرض للإهانة من قبل أحد الحضور. ومن هنا تبدأ معاناته مع المؤسسة الرسمية في هوليود، وقد كرست نفسها للدفاع عن القيم الأمريكية المهددة من قبل “الشيطان الأحمر”. بعد الإهانة تنقلنا كاميرا “جاي روش” لبيت الممثل الشهير “إدوارد.ج.روبنسون”، وقد استضاف عدد من كتّاب السيناريو اليساريين، ومنهم “ترامبو” الذي يقترح عليهم توزيع منشور سياسي ينتقد فكرة تخويل الكونغرس لنفسه حق النظر في قناعات الأمريكيين السياسية بحجة الدفاع عن القيم الأمريكية. يظهر أفراد الجماعة في حالة من التجانس والتوافق، فينتقلون إلى تجمع لسينمائيين متشددين يشكلون نواة مختلفة تُخون كل من يجرأ على اعتناق الفكر اليساري. وعلى رأس هؤلاء نشاهد الممثل الشهير “جون واين”، الذي يزايد في وطنيته، فيدخل في مشادة كلامية مع “دونالد ترومبو” الذي يسألة :« أنا عملت كمراسل حرب بالشرق الأقصى خلال الحرب، وأنت أين كنت؟ ربما شاركت في المجهود الحربي من أحد الأستوديوهات”. وبعد أن نزع نظراته يضيف على مسامع “جون واين”: “الآن بإمكانك أن تلطمني”، فيشتد غضب “الكوبوي” ويغادر القاعة، حاملا معه حقدا لترامبو.تتعمق مأساة “ترامبو”، حينما يتلقى استدعاء للمثول أمام لجنة التحقيق الحكومية للنشاطات غير الأمريكية في واشنطن عام 1947 بعد إدانته رفقة عدد من زملائه بازدراء الكونغرس والترويج لأفكار مفترضة للدعاية الشيوعية، فيطرح عليه السيناتور، “روبيرت ستريبلينغ”، المكلف بالتحقيق، السؤال التالي “هل أنت شيوعي؟”، فيرفض الإجابة، ولا يبدي أي استعداد للتعامل مع اللجنة، وذلك في حد ذاته “خيانة”. ومن خلال صور أرشيف، أدرجها “جاي روش” في فيلمه، نشاهد استدعاء اللجنة لممثلين أمريكيين وهم يُعبرون عن مقتهم الشديد للشيوعية، أمثال الممثلين “رونالد ريغان”، و«روبيرت تايلور” اللذان اشتهرا بأداء أدوار في أفلام تمجد شخصية “راعي البقر”، وترفع من شأن القيم المتحررة التي قامت عليها أمريكا. وبعد أن صدر الحكم بسجن “ترامبو” ورفاقه العشرة، يدلي الممثل “ادوارد. ج. روبنسون” بشهادة غير منتظرة ضد “ترامبو”. ندرك لاحقا أنه أجبر على ذلك بعد أن حاصرته المؤسسة الرسمية في هوليوود، ورفضت إسناده أي دور، فوجد نفسه على حافة الضياع بعد أن كان ممثلا شهيرا يتقاضى أعلى الرواتب. كما ندرك أن “جون واين” هوالذي دفعه للإدلاء بشهادته ضد “ترامبو”، فتتضح الصورة، وتظهر أمريكا غير متسامحة، منغلقة، وبيوريتانية مخيفة.“أوسكاران” لـ “ترامبو” باسم مستعارلا مكان للاختلاف في هوليود خلال تلك المرحلة الحاسمة، التي عرفت بروز “المكارثية”. لم يجد ترامبوفرصة للعودة إلى عمله، فقد صدرت قرارات من هوليوود، بتأثير من “هيدا هوبر” تمنعه من العمل، فيلجئ لأسماء مستعارة وكتب سيناريوهات أفلام حازت نجاحا كبيرا، ومكنته من افتكاك أوسكار أحسن سيناريومرتين، المرة الأولى سنة 1953 بفيلم “عطلة رومانية “ عام 1953(أخرجه ويليام ويلر) وهومن بطولة “أودري هيبورن”، و«غريغوري بيك”، والمرة الثانية بفضل فيلم “الشجاع” عام 1956، وأخرجه “ايرفينغ رابر”.القائمة السوداء جسدت “زمن الشر والخوفوفق المخرج “جاي روش”، في تقديم معاناة “دونالد ترامبو”، وسعيه لاستعادة مكانته في هوليود، بعد أن انتشرت أخبار تفيد أنه هو من كتب سيناريو فيلم “عطلة رومانية”. وفي هذه الأثناء يتصل به الممثل والمنتج “كورك دوغلاس”، وفي يده سيناريوفيلم “سبارتاكوس” الشهير (أخرجه ستانلي كوبريك) الذي أدى فيه دور البطولة إلى جانب الممثل “توني كورتيس”. فيطلب من ترامبوأن يعيد كتابة السيناريو. وفي تلك الأثناء يلتقي “ترامبو” بالمخرج الشهير “أوتوبريمينجر”، ويكلفه بكتابة سيناريو فيلم “اكزوديس” (بطولة بول نيومان). ونظرا لامتلاك كل من “كورك دوغلاس” و”بريمينجر” شخصية قوية، وقفا في وجه “هيدا هوبر”، وقررا إدراج اسم “دونالد ترامبو”. ولما تم عرض فيلم “سبارتاكوس” وسط موجة من الرفض، والغضب، من قبل الموالين لـ “هيدا هوبر”، يتوجه الرئيس جون كنيدي لقاعة السينما لمشاهدة الفيلم، فيبدي اعجابه به، لتدخل بذلك أمريكا مرحلة جديدة أدت إلى وضع حد للقائمة السوداء سنة 1960.الفيلم مؤثر للغاية. امتاز بقوة الإخراج، رغم تقنياته الكلاسيكية، وبسيناريو سلس، وبقدرة على نقل أجواء المرحلة، من حيث الديكور والأزياء المتناسقة. كما أن أداء الممثل “بريان كراستون” كان قويا، مبهرا وعميقا للغاية، إذ استطاع ان ينقل مأساة “ترامبو” عبر حالات مختلفة، سواء داخل السجن، أو أثناء حمى الكتابة، ولحظة إهماله لزوجته (تمثيل ديان لاين) وأبنائه من أجل التأليف. ومن بين اللحظات المؤثرة في الفيلم، لحظة إلقاء “ترومبو” خطبة أثناء تكريمه من قبل هوليوود، وقد قررت العفوعنه، فيردد أن القائمة السوداء جسدت “زمن الشر والخوف” الذي لم ينج منه أحد، وقال: “إن للمكارثية ضحايا فقط، وليس أبطال”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات