38serv
من المغالطة القول إن من أسباب إقبال الجزائريين على “الأعشاب الطبية” التي انتشرت محلات بيعها بشكل واسع، الهروب من الأسعار المرتفعة للأدوية الكيميائية التي تباع في الصيدليات. فسعر الوصفة الواحدة من الأعشاب الطبية التي توصف مثلا لعلاج العقم وداء السكري والسرطان مثلا، وتحتوي عادة على الكثير من الزنجبيل والقليل من العسل والحبة السوداء وبعض الزيوت وغيرها، قد يفوق 8 ملايين سنتيم، مع احتمال تعرض المريض للتسمم، الجلطة القلبية أو القصور الكلوي.أصبحت شهرة الممتهنين لوصف وبيع الأعشاب الطبية أو من يسمون “الأخصائيين في الأعشاب” تنافس شهرة الأطباء، فأصبح الناس يقطعون مئات الكيلومترات لزيارة أحد هؤلاء الأخصائيين الذين سمعوا عنهم عن طريق أقارب، أصدقاء أو في إحدى وسائل الإعلام. وفي وقت تمكن بعض الممتهنين لوصف وبيع الأعشاب الطبية في الجنوب، وبالتحديد في ولاية وادي سوف، من تحقيق شهرة واسعة جعلت الجزائريين يحجون إليهم من كل مناطق الوطن طامعين في إيجاد العلاج عندهم، تمكن آخرون من باتنة وقسنطينة وبالعاصمة من تحقيق شهرة لا بأس بها، على غرار “الحاجة نصيرة” من بوزريعة التي استقطبت العديد من المرضى من شرق البلاد وغربها، والمعروفة بخلطاتها التي تعالج العقم.هكذا يتم علاج “العقم” بالأعشابتقوم “الحاجة” بطرح بعض الأسئلة على الزوجين، ثم تخبرهما بمشكلتهما، بالنسبة للرجل “ضعف جنسي”، وبالنسبة للمرأة “هواء في الرحم”. تطمئن “الحاجة” الزوجين، وتؤكد لهما أن العلاج موجود، والوصفات جاهزة ومحضرة مسبقا، خلطة من الأعشاب والعسل حجمها نصف لتر للرجل وخلطة أخرى من نفس الحجم للمرأة، وسعر كل واحدة منها 4 ملايين سنتيم جزائري، المجموع إذن 8 ملايين سنتيم، ليتم شراؤهما من “الحاجة” التي تعود وتؤكد أن متابعة العلاج ضرورية جدا.هكذا يتم علاج “العقم” أو “تأخر الإنجاب” لدى بائعي الأعشاب الذين يصرون على استخدام لقب “مختص في الأعشاب الطبية”، مع أنهم لا يحملون أية وثيقة تثبت ذلك. “الخبر” التقت بالسيدة “ع. ف” التي وافقت أن تشارك القراء قصتها مع “الحاجة نصيرة”، موضحة “سأعيد لها خلطتها التي قيمتها 4 ملايين و600 ألف سنتيم جزائري، لأنها سببت لي التسمم وكادت تسبب لي جلطة قلبية”. لاحظنا أن الخلطة التي تحملها السيدة “ع.ف” لا توجد عليها قائمة المكونات، ولا حتى تاريخ التحضير أو تاريخ انتهاء الصلاحية.وتقول المتحدثة إنها لم تنجب منذ 10 سنوات كاملة، ما جعلها تقصد هذه المرأة بنصيحة من إحدى صديقاتها، وبالرغم من سعر الخلطتين المرتفع وافق زوجها على شرائهما، وبعد تناولها الخلطة التي يفترض أنها مصنوعة تحديدا لعلاج العقم عن طريق تنشيط البويضات شعرت بآلام حادة، مؤكدة “تناولت الخلطة يومين فأصبت بداء البواسير، وأصبحت أشعر بثقل في لساني، فتوقفت عن تناولها، نفس الأمر حدث مع زوجي عند تناوله للخلطة الخاصة بتقوية الحيوانات المنوية”. بعد هذه الأعراض قامت السيدة بتحليل الخلطتين لتكتشف أن مبلغ 8 ملايين الذي دفعته لـ “الحاجة” كان مقابل خليط من الزنجبيل بنسبة كبيرة، القليل من القرفة، العسل، الشعير المطحون وطلع النخل. هذا الخليط يتم وصفه بمقدار ملعقتين كل ساعتين، ويؤكد الطبيب د. نسيم في حديث مع “الخبر” أن “تناول جرعة زائدة من الزنجبيل قد يؤدي إلى حدوث جلطة قلبية”.خلطات لكل شيء حسب “دراهمك”!في محلات بيع الأعشاب بصفة عامة، وعند أولئك القليلين الذين يملكون ختم وشهادة كطبيب مختص في تصنيف وتحضير الأعشاب الطبية متحصل عليها من مصر وبعض دول الخليج كالإمارات والبحرين وغيرها، لا يذهب المستهلك لشراء نوع معين من الأعشاب أو الخلطات أو الزيوت لاستعمالها، وإنما ليعرض نفسه على “تاجر” يصر على قدرة الأعشاب والخلطات التي يحضرها في علاج بعض الأمراض المزمنة مثل داء السكري والسرطان.. وبعد الاستماع إلى أعراض الشخص ينصحه بوصفة من وصفاته أو بنوع معين من الزيوت والأعشاب التي لا يقل سعرها عن ألفي دينار جزائري.ووقفت “الخبر” في خرجتها الاستطلاعية على بعض أنواع الخلطات التي توصف للمرضى، أول ما لفت انتباهنا لافتات المحلات التي كتب على إحداها “تجدون هنا عشبة بن علي اليمني للإنجاب”، وفي الأخرى “استعملوا نبتة السنا المكية للإمساك”.. ومن الخلطات مجموعة من الزيوت توصف لمعالجة التهابات المسالك البولية يقدر سعرها بـ2600 دينار جزائري، بينما لا يقل سعر الخلطة الواحدة التي تحتوي على العسل الصناعي أحيانا وعسل النحل أحيانا أخرى عن 4 آلاف دينار جزائري، وتصل إلى 2 مليون سنتيم، توصف لعلاج العقم، الضعف الجنسي، الكولسترول، النحافة، الأرق..وتوصف هذه الخلطات لمدة من 15 يوما إلى شهر، مع التشديد على ضرورة المداومة. أحد أنواع معجون الأسنان لا تزيد قيمته عن ألف دينار جزائري يقدر سعره عند “العشابين” 2500 دينار. الاستشارة الطبية فقط لدى “أخصائي الأعشاب الطبية” يتراوح سعرها بين 200 دج إلى 400 دج، بينما المعاينة التي تكون عادة عن طريق قراءة “التحاليل الطبية” تبدأ من 400 دج فما فوق، لكن نادرا ما تتوقف زيارة المريض على الاستشارة أو المعاينة، وإنما تكون بشراء الخلطات التي يقنعه بها ذاك الأخصائي، والتي لا تقل عن 3 آلاف دينار جزائري، ومع إضافة بعض الزيوت والأعشاب يمكن أن يصل السعر إلى مليون ونصف مليون سنتيم.مبدأ العشابين أن علاج كل مرض موجود “حسب دراهمك”، وتقول السيدة يمينة لـ “الخبر” “إحدى بائعات الأعشاب سألتني أولا عن المبلغ الذي أستطيع أن أدفعه، وعندما أخبرتها أنه لا يهمني السعر المهم تكون الوصفة فعالة، نصحتني ببعض الأعشاب، اشتريتها بقيمة 3 آلاف و600 دينار”. وتوضح السيدة أنها فعلا قامت بغلي تلك الأعشاب وتصفيتها وتقديمها كسائل للشرب لابنتها التي تبلغ 8 سنوات من العمر، من أجل معالجة مشكلتها المتمثلة في “السلس البولي”، وتؤكد يمينة “بعد تناول المشروب ليومين ليلا، تعرضت ابنتي لمضاعفات، وأصيبت بإسهال حاد مع الشعور بآلام شديدة في البطن”.ما علاقة بائعي الأعشاب بالرقاة؟الطرف الأول الذي استقطب الناس يسمى “بائع الأعشاب” الذي تحول إلى طبيب وصيدلاني في نفس الوقت، أما الطرف الثاني فهم “الرقاة” الذين لم يعد يتوقف دورهم على قراءة القرآن في الماء، بل أصبحوا يُعدُّون بدورهم خلطات من العسل والزيت وبعض الأعشاب التي وردت في الأحاديث النبوية، حسبهم. هذا التقارب أو التكامل بين الاثنين أنتج علاقة تعاون وتعاقد، وهي الحقيقة التي وقفت عليها جريدة “الخبر” في خرجتها الاستطلاعية مصادفة.كنا نلاحظ أنواع الخلطات وأسعارها في أحد محلات بيع الأعشاب بقسنطينة، عندما دخل رجل بلحية قصيرة وجبة بيضاء، وعلى الفور لقي الترحاب من صاحب المحل الذي سأله عن أحواله، قبل أن يخبره الرجل، الذي اتضح من حديثه مع صاحب المحل أنه “راقٍ”، بأنه أرسل بعض النسوة الذين قصدوه بدافع الرقية لشراء بعض الأعشاب من عنده، بدوره أكد له بائع الأعشاب التزامه باتفاقهما “عندما يأتون عندك أرسلهم عندي، وأنا بدوري سأرسل زبائني عندك”.كانت هذه علاقة التعاون بين الاثنين، بائع الأعشاب وبعد الاستماع إلى أعراض المريض قد لا يجد مرضا معينا، وخلطة جاهزة ينصحه بها، ويتضح أن هذه الأعراض قد تكون مسا من الجن أو السحر فيوجهه إلى شريكه “الراقي” الفلاني الذي يستقبل المريض، وبعد “الرقية” يؤكد له أن علاجه يتطلب شراء بعض الزيوت مثل زيت الحنتيت الطارد للجن، المسك الأسود والسدرة والحبة السوداء مثلا، كلها معا تكلف حوالي ألفي دينار جزائري عند شريكه “بائع الأعشاب” فيوجه المريض نحوه.هذا التعاقد المباشر بين الطرفين لا ينفي وجود تعاقد غير مباشر، حيث يقوم “الراقي” بالتعاقد مع بائع أعشاب، عن طريق شراء الأعشاب والزيوت وغيرها من المكونات التي تلزمه بتخفيضات، ليقوم هو بإعادة بيعها للمرضى الذين يقصدونه.حالة السيدة ليندة الشرق التي تعاني من اوهن الشديد، فذهبت لزيارة امرأة بولاية سكيكدة قيل لها إنها تعالج بالرقية، وبعد قراءة القرآن أخبرتها أنها مصابة بالسحر الأحمر والأسود، وأن خلطة علاجها تكلف 26 ألف دينار لاحتوائها على أعشاب مستوردة من المغرب، وتعلق ليندة في حديثها مع “الخبر” “طلبت مني أن أحضر ربع لتر من عسل النحل أي أن هذا السعر لا يشمل العسل”. والحقيقة، حسب المتحدثة، أن الخلطة لم تكن تحتوي إلا على بعض الأعشاب العادية التي تباع في المحلات.إنهم موجودون في كل مكانليست حالة ليندة الوحيدة التي صادفتنا أثناء تحضيرنا لهذا الموضوع بكل من قسنطينة والعاصمة، وإنما العديد من النساء والفتيات اللواتي انتقلن إلى مختلف مناطق الوطن، من باتنة وخنشلة وواد سوف، بحثا عن العلاج بالأعشاب الذي اتضح أنه مكلف جدا جدا. فهؤلاء موجودون في كل مكان، وهو الأمر الذي يثير قلق المختصين ويجعلهم يحذرون منهم، بالنظر إلى التأثيرات السلبية على المرضى بغض النظر عن التكاليف الباهظة، ولعل من أكثر التعليقات التي سمعناها سخرية، نعليق “إ.ن” الذي خاض رحلة طويلة للعلاج بالأعشاب بسبب تأخر الإنجاب، قائلا “على الأقل الدواء عندما نشتريه من الصيدليات كاين بطاقة الشفاء، الأعشاب أكثر تكلفة، لازم يرجعوهم بوصفة طبية ويدخلوهم في بطاقة الشفاء”.الكثيرون اكتشفوا أنهم دفعوا أموالهم لتخريب صحتهم أكثر، وتحكي سهام لـ “الخبر” عن صديقتها بالجامعة التي كانت تستعمل أحد الزيوت لمنع نمو الشعر، وبعد حوالي سنة من استعماله ظهرت عليها بعض الأعراض مثل زيادة الوزن والشعور بالانتفاخ، ما جعلها تزور الطبيب الذي أخبرها بعد المعاينة أن هذه الزيوت قد تسبب في غلق المسامات بمناطق مختلفة من الجسد، وبالتالي منع التعرق، وهو الذي جعلها تعاني من حالة الانتفاخ.إنها نتائج الانتشار الكبير لهذه التجارة التي تحولت إلى خطر حقيقي يهدد الجزائريين، حسب المختصين الذين يعتبرون أغلب هذه الوصفات خدعة وتحايلا ولعبا بحياة المرضى عن طريق استغلال عواطفهم.ويقول أحمد ديب، يعمل منذ 10 سنوات في صيدلية، إنه توجد بعض الأعشاب الطبية التي تباع في الصيدليات ومرخصة على أساس أنها مواد شبه صيدلية، وأي نوع آخر من الخلطات والأعشاب التي لا تندرج في هذا التصنيف فبيعها ممنوع في الصيدليات، لهذا يفترض بالمرضى التوجه إلى الصيدليات بدل هؤلاء. ويقول الطبيب د. نسيم من ولاية تلمسان في اتصال مع “الخبر”، يجب أن ينحصر عمل التجار على بيع البهارات، أما بيع أعشاب كأدوية فأمر غير قانوني، ومستحضرات النحافة، الزكام، الأرق، القلق، السمنة وغيرها يجب أن تكون على شكل مستحضرات صيدلية. وينبه المتحدث “عشبة الداد مثلا سامة ويمكن أن تقتل، وكذلك عشبة السنا المكية التي توصف ضد الإمساك قد تسبب الإسهال الحاد للأطفال ولمرضى الأمعاء، والكثير من الأعشاب التي توصف للتنحيف والإجهاض خطيرة جدا”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات