38serv

+ -

ليست الكلمة في الإسلام حركات يؤدّيها المرء دون شعور بتبعتها، بل إنّ الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصّادقين، قال الله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ”. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِح لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِع اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا”. قال ابن كثير في تفسيره: “يقول الله تعالى آمِرًا عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة كأنّه يَراه، وأن يقولوا قولاً سديدًا، أي مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنّهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يُصلِح أعمالهم أي يوفّقهم للأعمال الصّالحة وأن يغفر لهم الذّنوب الماضية، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التّوبة منه”.وفي البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي: “مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنّة”، وفي بيان خطر الكلمة على المرء ما لم يضبطه، يقول صلّى الله عليه وسلّم لسفيان حين سأله، يا رسول الله حدّثني بأمر أعتصم به، قال: “قُل ربّي الله ثمّ اسْتَقِم، قلتُ: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثمّ قال: هذا”. وقال عقبة بن عامر: يا رسول الله ما النّجاة؟ قال: “أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابْكِ على خطيئتك”. ولمّا دلّ معاذًا على خصال الخير، الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والصّدقة وقيام اللّيل والجهاد، قال له: “ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه؟ قلتُ بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كفّ عليك هذا، قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ قال: ثكلتك أمّك، وهل يَكَبّ النّاس في النّار على وجوههم إلاّ حصائد ألسنتهم”.الكلمة هي أحد الآثار السّلوكية الّتي تترتّب عليها المسؤولية وتخضع للرّقابة والحساب والجزاء، لأنّ الإسلام يريد من الإنسان المسلم أن يكون إنسانًا ملتزمًا يخضع قصده وقوله وفعله للالتزام والانضباط. فلا يطلق الكلمة إلاّ بعد أن يفكِّر في معناها وآثارها ونتائجها، فهو مسؤولٌ عنها ومحاسَبٌ عليها. والكلمة منطوقة أو مكتوبة تتبوّأ مركز الصّدارة في مجال الخطاب والتّعبير عن الرأي ونشر الثقافة، فهي أداة الإفصاح عن الفكرة ووعاء التعبير عن مكنون الإنسان، لكنّها سلاح ذو حدين، فالكلمة إمّا أن تكون أداة بناء وتواصل وإمّا أن تكون مِعْوَل هدمٍ وأداة تخريب.ومن هنا تتضح مسؤولية الإنسان تجاه كلماته، فللكلمة أهمية بالغة وخطورة كبيرة، وهي سلاح خطير ومؤثّر، إذا استخدمَت في الخير والإصلاح والبناء كان لها نفع كبير وفائدة عظيمة، وإذا استخدمت في الشرّ والإفساد والهدم كان ضررها كبيرًا وخطرها عظيمًا، والمشكلات والخصومات والعداوات بين الأفراد والجماعات والدول تبدأ في الغالب بكلمات متبادلة بين الطرفين. كم من كلمة فاحشة بذيئة يتفوّه بها النّاس ولا يلقون لها بالاً، يتسبّبون بها في خراب البيوت وتقطيع الصِّلاة بين النّاس، وينشرون بها الفتن بين المجتمعات. كم هي الأوقات الّتي نضيّعها في أحاديث الغيبة والنّميمة. هذه الهواتف الّتي نحملها ويفترض أنّها لقضاء الحاجات ومواصلة القرابات كيف انقلبت في كثير من الأحيان إلى معول هدم ومنشأ مصيبة، وهمّ وغمّ بسبب تتبّع أخبار النّاس والتجسّس عليهم.كم من حروب نشبت بين دول أو قبائل كان السّبب فيها كلمة صدرت من هنا أو هناك. كم من بيت هدّم، وكم من طفل شرّد بسبب وشاية مغرضة من هذا أو ذاك. كم من مشكلة أو مصيبة وقعت لفرد أو جماعة أو مؤسسة مهمّة كان السّبب فيها كلمة واحدة. كم من معصية عُصِيَ الله بها في الأرض بسبب كلمة واحدة.ما أكثر الكلمات الّتي نتفوّه بها كلّ يوم بل في كلّ لحظة، وحين نهوي بها في النّار سبعين خريفًا، ما أخطر هذه الكلمات، وما أشنع هذا الفعل. في المجتمعات الّتي لا تدين بالإسلام ليس هناك حدود أو ضوابط أو قيود على حرية الكلمة، أو حرية العاملين في وسائل الإعلام في استخدام هذا السّلاح، وليس هناك رادع من دين أو أخلاق أو قانون، أمّا في الإسلام، فإنّ هناك ضوابط وحدود لاستخدام الكلمة ونشرها وبثّها، وتخضع لقوانين الجزاء والثّواب والعقاب الدّنيوي والأخروي، والمسلم مسؤول مسؤولية كاملة عمّا يقوله أو يكتبه أو ينشره، وليس له كامل الحرية في استخدام هذا السّلاح، وكتابة أيّ موضوع، ونشر أيّ معلومات، وعليه أن يراقب الله في عمله بشكل دائم، وأن يسأل نفسه قبل كتابة أيّ موضوع، أو نشر أيّ معلومة: هل هنالك مصلحة وخير في كتابة هذا الموضوع أو نشر هذه المعلومة؟ وما الفائدة الّتي سيُجنيها القارئ والمجتمع من وراء هذا الكلام؟ فإن وجد أنّ هناك مصلحة وخيْر وفائدة من وراء النشر نشره وإلاّ تراجع وامتنع عن النشر.وهناك مجموعة كبيرة من الآفات والأخلاق الذّميمة والصّفات القبيحة والمعاصي والذّنوب الناتجة عن إساءة استخدام الكلمة، وعن عدم إحساس المتكلّم بخطورة هذا السّلاح، وأنّه مسؤول مسؤولية مباشرة وكاملة عمّا ينطق به. وقد توعّد الله عزّ وجلّ على هذه الأعمال السيّئة بالعقاب في الدّنيا والآخرة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات