38serv
“ناصر الدين فنان أصيل ومتقن تمام الإتقان لمهنته، وكان من ذوي العواطف النبيلة، والفكر النيّر، وكان مدفوعا بإيمان صادق، وكان -مع ميله للعزلة- يتمتع بشخصية جذابة”، هكذا وصف محمد راسم الفنانَ ألفونسو إيتيان دينيه. الرجل الذي ألهمته بوسعادة إبداعا وإسلاما اختار الفنان ألفونسو إيتيان دينيه مدينة بوسعادة لتكون حاضنة لجثمانه، تحت قبة بيضاء تعانقها ظلال بقية من نخيل كانت جزءا من لوحة لم يوقعها الفنان الراحل..ولد ألفونسو إيتيان دينيه في باريس يوم 28 مارس 1861 من عائلة يرجع أصلها إلى مقاطعة “لواريه”. وكان أبوه محاميا لدى محكمة “السين”، وكان جدّه المهندس ابن وكيل الملك في “فونتان بلو”. أما أمه “لويز ماري آدل بوشيه” فقد كانت أيضا ابنة محام.بعد دراسته الثانوية التي تُوجت بحصوله على شهادة البكالوريا، قُبل في مدرسة الفنون الجميلة في باريس. ولدى تخرّجه منها فاز بوسام شرفي.وفي عام 1883 تحصل على درجة الشرف بلوحته “صخرة صاموا” (فونتين بلو)، وقام برحلته الأولى إلى الجزائر. وفي عام 1884 منحه صالون قصر الصناعة وساما ثالثا، كما أعطاه منحة أتاحت له أن يقوم برحلة ثانية إلى الجزائر. وهكذا ذهب في سفرة طويلة حتى وصل إلى ورقلة والأغواط، وهناك وجد ضالته المنشودة، إذ تركت المناظر الخلابة التي رآها في الجنوب أثرا عميقا في حياته. ومن بين اللوحات الرائعة التي استوحاها من الجنوب لوحة “سطوح الأغواط”.وفي عام 1889 مُنح الوسامَ الفضي في المعرض العالمي المقام في باريس، وتعرف إيتيان دينيه في نفس السنة على شاب جزائري يُدعى سليمان بن ابراهيم باعامر، فاشتدت روابط الصداقة والوفاء بينهما، ومنذ ذلك الحين صار بن ابراهيم يشاركه في كل مجالات حياته الفنية والفكرية. والحقيقة أنه اعتبارا من عام 1905 استقر دينيه نهائيا في بوسعادة.كان دينيه يُستقبل من طرف الأوساط الجزائرية، وكان بن ابراهيم يرشده في ذلك، وقام برحلات عديدة عبر الصحراء. وهكذا تعلم النطق العربي، وفهم النفسية الجزائرية والعادات والتقاليد، وأحب الدين الإسلامي حتى اهتدى بهديه واتخذه دينا عام 1913، وتقلد الاسم المجيد “ناصر الدين”، وبذلك صدق قول ولي الحضنة سيدي ثامر “إن الله يبارك من يعيش في بوسعادة أكثر من أربعين يوما”. وفي ديسمبر 1927، أكد دينيه اعتناقه للإسلام بنطقه الشهادة أمام مفتي الجزائر، وهكذا بدأ معجبوه القدامى ينقدون فنه بعد إسلامه، ومن الغريب أن فنه أصبح في نظرهم مشبوها. ولم يستطع هؤلاء أن ينكروا عليه إسلامه، فأخذوا ينتقدون رسمه. هذا الفن الذي أصبح بين عشية وضحاها لا يساوي شيئا في نظرهم، حتى أن آثاره الهامة أصبحت في نظرهم “تنميقا استشراقيا” بلا معنى. وفي عام 1929 عُرقل مشروع إنشاء متحف ناصر الدين دينيه من قبل الحاقدين عليه والجماعات الاستعمارية القوية آنذاك. على أن هذا لم يمنع ناصر الدين من أن يتابع طريقه، لأنه كان مدفوعا بإيمان عميق.وفي ماي 1929 وعن عمر يناهز 68 سنة، عزم على الحج إلى مكة المكرمة.الإسلام في نظر ناصر الدين دينيهلم يقتصر ناصر الدين على ميدان الرسم فقط، فقد كان مولعا بالبحث عن الحقيقة والمطالعة، وهكذا أنتج عددا من المؤلفات ذات الصبغة الأدبية والتاريخية والدينية. إن الكتابات الأدبية التي نشرها وحده أو مع صاحبه سليمان بن ابراهيم تشهد عن رغبته في تصحيح آراء معاصريه في ما يتصل بنظرتهم الخاطئة إلى الإسلام. وكباقي المسلمين الأوفياء، أراد أن يعيد للإسلام صفاءه، وأن يطهره من الأفكار الضالة التي حاولت جماعة من الطرقيين وأعوان الاستعمار أن يلصقوها به. فقد فضح في كتابه “خضرة” سلوك بعض المرابطين الذين يدعون أنهم من الشرفاء، وبهذا الأصل الشريف ينسبون لأنفسهم قوة خفية. فناصر الدين يذكر “بأن الله لا شريك له”. وتصدى في كتابه “الشرق في نظر الغرب” للرد على عدد كبير من المستشرقين الغربيين الذين كانوا يتهجمون على الدين الإسلامي عن جهل أو عن فهم سقيم. كما أظهر فيه عدم الاستقامة الخلقية للويس برتراند، وسخف الأب لامنس، وسوء نية ليون روش.وفاتهما زال قبر دينيه البسيط في بوسعادة يحضن رُفاته في بقعة اقتناها ديني حبّاً وانتماءً لهذه الأرض التي جمعته حيا وميتا بصديقه ورفيقه ومرشده سليمان بن إبراهيم باعمر وزوجته؛ وهما الشخصان اللذان رافقاه في رحلته الحجّية أيضا، حيث زاروا جميعا سنة 1929 البقاع المقدسة وسيناء وجبل طور، فسمي من يومها “الحاج ناصر الدين”.شعر ناصر دينيه بدنو أجله، فكتب وصيته قبل أيام قليلة من وفاته بخصوص جنازته التي تمنى أن تكون إسلامية ويوارى جثمانه في مقبرة إسلامية في بوسعادة، البلد الذي أُنجز فيه الجزء الكبير من لوحاته. وإذا ما وافتنه المنية في مكان آخر فيجب نقل جثمانه إلى بوسعادة، والمصاريف تؤخذ من ترِكته، وإذا ما وافته المنية في باريس ولم يحضر أي مسلم للصلاة على جنازته، فيجب أن تكون الجنازة مَدَنية فحسب، في انتظار إقامة جنازة إسلامية له في بوسعادة. وبعدها بقليل أسلم الروح إلى بارئها عشية يوم 24 ديسمبر 1929 في مرسيليا، فنقل جثمانه إلى بوسعادة، حيث دُفِن يوم 12 جانفي 1930، بعد أن ترك حوالي 139 لوحة. وتخليداً لأعماله الفنية الرائعة ورحلته الإيمانية المؤثرة، تم تحويل بيته لمتحف يحمل اسمه حتى اليوم.وألَّف ناصر الدين دينيه كتبا قيِّمة ككتاب “حياة محمد، “الشرق من وجهة نظر الغرب”.دفاعه عن الإسلام “لقد أكَّد الإسلام من الساعة الأولى لظهوره أنه دين صالح لكل زمان ومكان؛ إذ هو دين الفطرة، والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر، وهو لهذا صالح لكل درجة من درجات الحضارة”. (من كتاب محمد رسول الله).وبما أن ناصر الدين دينيه كان فنانًا موهوبًا، فقد لفت نظره الجانب الجمالي والذوق الرفيع للحياة النبوية، يقول “لقد كان النبي يُعنَى بنفسه عناية تامة، وقد عُرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال”.ويصف الأمير شكيب أرسلان دفاع دينيه عن الإسلام بقوله “لقد قدم أكبر خدمة للإسلام، وحجته دون أي ادعاء كانت دامغة”.وينقل عنه الشيخ توفيق المدني سنة 1926 قوله “حصرت جهودي الثقافية في الدفاع عن الإسلام، واستعمال القلم والريشة للرد على الحاقدين عليه من رجال الكنيسة وأدعياء الاستشراق”.ومصدر قوة حجة ديني قياسا بهؤلاء أنه اعتمد كثيرا على المصادر العربية الإسلامية التي هي أصدق معلومات وبلاغا من تخمينات أدعياء الاستشراق وترهات القساوسة المغرضين.. فقد كتب سيرة محمد (ص) بالرجوع إلى مصادرها الأولى مباشرة: ابن هشام، ابن سعد..متحف دينيهمتحف دينيه حديث التأسيس، فقد تم تدشينه في العام 1993. وخلال العام 1995م، حدث اعتداء على متحف دينيه احترق على إثره بعض الأغراض البسيطة مثل سريره الذي كان ينام عليه، وأدواته الخشبية التي كان يستعملها، أما الأعمال الفنية فلم تصل إليها ألسنة اللهب.وللحفاظ على سلامتها خلال الأوضاع الأمنية غير المستقرة، أخذت الدولة الجزائرية أعمال دينيه ووضعتها بصفة مؤقتة في متاحف أخرى أكثر أمناً، منها: متحف الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، ومتحف أحمد زبانة في وهران، ومتحف سيرتا. وكانت الانطلاقة الحقيقة للمتحف في العام 2004 بعد استتب الأمن، وتم استرجاع هذه الأعمال، وما تزال هناك نقاشات مستمرة مع متحف وهران ومتحف قسنطينة لاسترجاع البقية.المتحف لا يحوي كل أعماله التي تزيد على 500 عمل موزع بين المتاحف والمجموعات الخاصة في الجزائر، وفي المتاحف العالمية.قيمة لوحاته الفنيةوعن أسعار أعمال دينيه، يقدر العارفون أن أقل سعر لأي عمل من أعماله تخطى حاجز 700 ألف يورو، وكل عام يرتفع سعرها بسبب الصحافة الخليجية التي كتبت عن أعمال ناصر الدين ومجدتها، ما زاد في أسعارها. وتباع بعض أعماله في “غاليري ديغو” في باريس، مثل لوحة “الراقصة ذات الوشاح” التي تقدر قيمتها بأكثر من 700 ألف يورو، ولوحة “امرأة مطلقة طردها زوجها مع أطفالها”، ولوحة “سطوح الأغواط”، كما تُزين أعمالُه معجمَ “لاروس”، وتوجد أعماله في الكثير من متاحف العالم مثل متحف برلين، ومتحف باريس، ومتحف سيدني، ومتحف طوكيو، إضافة إلى متحف الفنون الجميلة في الجزائر العاصمة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات