38serv
في بداية الألفية الثالثة، أتذكر عندما بادرت الدولة إلى إنشاء شُعَب دعم منتجات البطاطا والزيتون والحليب، وبعد سنتين أو أقل من انطلاق عمليات المعاينة والدعم لشُعبة الحليب، وقع بين يديَّ ملفٌ يشبه إلى حد كبير الفضيحة بكل المقاييس. الفضيحة تتمثل في إقدام مدير المصالح الفلاحية آنذاك على تشكيل لجنة لمعاينة مربي الأبقار، بغية إمدادهم بالدعم المالي اللازم لتوسيع نشاطهم، خدمة لتوجهات الوزارة الوصية التي كانت تهدف إلى الحد من رقعة استيراد حليب الغبرة بالعملة الصعبة. هذه اللجنة وبالتواطؤ المفضوح قامت بتوزيع أموال الدعم حينها على العشرات من المربين. إلى هنا كان الأمر عاديا والأمور تسير على ما يرام. أما غير العادي هو أن العدد ليس سوى 5 بقرات فقط كان المربون يتداولونها فيما بينهم، إلى غاية انتهاء موعد المعاينة وقبول ملف الدعم، وهكذا دواليك.هذا الأمر أثار فضولي الصحفيَّ، وجعلني أسارع إلى تغذيته بالوثائق والأرقام، ومحاولة دحض تقارير المديرية الوصية التي كانت تبني أرقامها على مئات الأبقار الحلوب، في حين لا وجود سوى لـ5 بقرات كانت تُرحّل كل مرة من زريبة لأخرى، ومن دُوَّار إلى آخر. وفي ذلك الوقت أثنى مسؤول الهيئة التنفيذية الولائية على العمل الصحفي المنجز، ولم يلبث أن حُوّل المقال إلى العدالة للتحقيق فيه ومعاقبة المتسببين، والنتيجة كانت انتفاء وجه الدعوى للمربين المتواطئين، وإبعاد الغرفة الفلاحية عن موطن الشبهات، وتحويل مدير الفلاحة إلى ولاية أخرى بعد ترقيته إلى مصف مفتش جهوي!أما صاحب المقال الذي هو أنا، فتحولت إلى مُتَّهم رقم واحد، بأني مَن قمت بالتحايل على اللجنة للظفر بدعم البقرات الخمس، ولولا أن رئيس أمن نزيها قام آنذاك بإنصافي ومحو اسمي من سجل المتهمين، لكنت زرت السجن بتهمة الاقتراب من البقرة “الحلوب” (ألف سطر تحت هذه الأخيرة). من هنا تبدأ الحكاية، حكاية مشاريع الاستصلاح عن طريق منح عقود الامتياز والقطاع المتدثِّر بعباءة الحصانة، والبعيد عن مرمى الشبهات، والذي لا تسقط عنه أوراق التوت، حتى إشعار آخر.حكاية مشاريع الاستصلاح على طريقة “وجه حبيبتي مزرعة مسيرة ذاتيا”يتساءل العديد من المتتبعين اليوم، وبعد مضي أزيد من عشريتين، على إطلاق برنامج الاستصلاح في إطار منح الامتياز والعديد من البرامج الأخرى، على غرار كل أشكال الدعم الفلاحي التي أطلقتها الدولة فيما بعد، وخُصصت لها مئات الملايير، عن الآثار الإيجابية والمقاصد والأهداف التي جنَتها هذه الأخيرة على أرض الواقع. والعودة إلى الخطاب الذي ما فتئت مختلف الأجهزة في الدولة تجتره هذه الأيام بعد انهيار أسعار البترول في السوق الدولية، وأهمية اللجوء إلى بدائل أخرى خارج قطاع المحروقات، عن جدوى كل هذا في ظل فشل سياسات فلاحية كثيرة من قبل، وعدم وجود الشجاعة الكافية، ليس من باب محاسبة من تسببوا في الفشل، بل على الأقل في الاعتراف بوجود هذا الفشل، ومحاولة البحث عن صيغ تقي من الوقوع في نفس الأخطاء مستقبلا.أسئلة ونقاط استفهام قد لا يعثر لها على جواب غدا، باعتبار أن إناء هذه “البرامج”، كما يقال، ينضح بالكثير، وأن من بين صنّاع القرار والمسؤولين عن تطبيق مثل هذه الخطط والبرامج، من لم يتوانوا في الكثير من المرات في اتباع المثل القائل “طبّاخ السم يذوقه”. هؤلاء الذين اغتنموا فرصة شهوة السلطة في تكريس مبدأ السلم الاجتماعي للاغتناء عبر استغلال الاستحقاقات المختلفة، للسماح لآلة “المسح” أن تفعل فعلتها، وهكذا دواليك. ولاية المسيلة التي تصل مساحتها إلى 3 أضعاف دولة بلجيكا كما يقال، تعد نموذجا حيا لهذا الفشل، فالولاية رغم الفشل الذريع الذي طال تجربة إنشاء 18 محيطا فلاحيا من بين 25 كانت مبرمجة للإنشاء، وبالرغم مما أصاب مئات المستفيدين منها من خيبات أمل في مشاريع ابتلعت مئات المليارات التي صُرفت على محيطات ظلت إلى اليوم أراضي جرداء، يستغلها الرعاة ويعشش فيها الخراب، ومع ذلك لم يتوان والي ولاية المسيلة السابق، والذي يُحسب له أنه كان شجاعا في طي هذا الملف برمته ووضعه في الأدراج والإعلان عن قرار جديد يقضي بإنشاء 44 محيطا فلاحيا جديدا، فاسحا بذلك المجال لإنتاج “فشل جديد”، لكن هذه المرة بأدوات ودوائر تسعى هي الأخرى للاغتناء على حساب أحد أهم مصادر الثروة، في بلدٍ جنت عليه السوق البترولية، كما جنى عليه الوزير الأسبق بن عيسى، ابن المنطقة الذي قال البعض إنه كان يرى مسقط رأسه على طريقة شاعر من سبعينات القرن الماضي، كان يمجد الثورة الزراعية قائلا “ووجه حبيبتي مزرعة مسيرة ذاتيا”.!محيط بوحمادو.. قصة الملايير التي “دفنت” في الأرض الخرابمحيط بوحمادو الواقع في بلدية السوامع بولاية المسيلة، واحد من المحيطات التي أنشأتها الدولة في إطار قوانين منح الامتياز في 2002، قال أحد المستفيدين إنه واحد من ضمن 30 مستفيدا آخر تم تسجيلهم في قوائم الاستفادة من هذا المحيط الذي يتربع على مساحة إجمالية تقدر بـ150 هكتار، وقدَّر أن نصيب كل مستفيد منها 5 هكتارات، وقد استبشر هؤلاء خيرا، خصوصا بعدما علموا بالمبلغ المرصود له والمقدر بـ10 مليارات و900 مليون سنتيم.أما الحصيلة على أرض المشروع، فهي حفر 5 آبار ومثلها من الأحواض، قبل أن تتوقف عملية تجهيزه حتى 2006، حين قامت مصالح سونلغاز بإيصال الكهرباء، لكن على مستوى الأعمدة فقط، ولدواعٍ بيروقراطية أُهمل المحيط وتحوّل إلى مرعى للغنم بعد ذلك، بدلا من أن يتحوّل إلى مصدر رزق لهؤلاء، واليوم مصير أكثر من 8 مليارات ظل مجهولا، كما هو حال ما يقارب ألفي شجرة مثمرة ماتت بسبب عدم توفر مياه السقي، مقاولون عملوا في المحيط ورحلوا تاركين خلفهم تجهيزات بالملايير ملقاة في الخلاء، بعد أن “غرفوا” الملايير.و18 محيطا من نفس الشاكلة.. قصة الأموال المهدورة تتكررتشير الحصيلة النهاية لبرامج الاستصلاح عن طريق منح الامتياز بالمسيلة، إلى أن 18 محيطا فلاحيا تم غرسها في العديد من المناطق التي روَّجت لها المصالح الفلاحية في بداية سنة 2000، وبالتحديد في بداية انحسار زمن الإرهاب، بأن الدولة نجحت في قطع أشواط قياسية في تكريس البرامج الخاصة بمحو آثار سنوات الدم والدمار التي انعكست على مناطق كثيرة بإقليم الولاية، وانطلقت في تعداد ثمار مشاريع إعادة التثبيت وفك العزلة، واستحداث المئات من مناصب الشغل في قطاع الفلاحة، لكن الأمر لم يكن يتعدى دائرة التقارير والأرقام الجوفاء. والأكيد في كل هذا أن الجانب الوحيد الذي بات معروفا هو الأغلفة المالية التي أُغرقت بها هذه المحيطات دون أدنى مردود يذكر، سواء على الجانب الاجتماعي أو الاقتصادي، وما إلى غير ذلك من الأهداف المختلفة.وتشير تقارير في هذا الشأن إلى أن المصالح المذكورة قامت لأول وهلة بإنشاء 25 محيطا فلاحيا، وبمرور الوقت تم إلغاء 7 منها لأسباب بروز نزاعات اجتماعية فيما بين المستفيدين، وانعدام القابلية في مناطق، وعدم توفر الماء في مناطق أخرى، لكن الأهم في كل ما تقدم هو حالة الفشل الذريع التي أصابت حتى ما تبقى من محيطات وعددها 18، والتي تكون المصالح المعنية قد وضعتها على طريق الاستغلال، بيد أن هذه الأخيرة التي استنزفت ما يقارب 130 مليار سنتيم من إجمالي 300 مليار كانت مخصصة لهذا البرنامج، واتضح أن هذه الأخيرة وقعت كذلك في نفس المشاكل التي عرفتها المحيطات التي تم إلغاؤها قبل ذلك، ولا يمثل محيط بوحمادو الذي غرق هو الآخر في دائرة الفشل سوى عينة من محيطات تحوّلت إلى خراب بكل المقاييس، ليبقى السؤال قائما حول من كان وراء ترسيم هذه المحيطات في أماكن دون دراسة معمقة؟ ومن المسؤول أيضا عن ما دفن في جوف الأرض من أموال تصل إلى عشرات المليارات؟الإعلان عن إنشاء 44 محيطا جديدا عبارة عن وهم!أبدى العديد من المختصين في الفلاحة أسفهم لغياب استراتيجية حقيقية للنهوض بالقطاع الفلاحي في ولاية المسيلة، الأمر الذي جعل هذا الأخير مجرد عُصب يتغذى منهم أصحاب النفوذ ومن فسح لهم المجال للاغتراف من المال العام ليس إلا، بعيدا عن أي دراسات جدوى على أرض الواقع، على الأقل لتحصيل نسبة الفشل من عدمه. وبحسب هؤلاء المختصين، فإن إعلان والي الولاية السابق عن رصد أموال لإنشاء 44 محيطا فلاحيا جديدا على مستوى الولاية، رغم أن 25 محيطا فلاحيا أنشئت بداية التسعينات من القرن الماضي واستنزفت غلافا ماليا قُدر بـ130 مليار سنتيم أثبتت التجربة بما لا يدع مجالا للشك أنها فاشلة بامتياز، والدليل بقاء عشرات الهكتارات منها عبارة عن أراضٍ بور، خطأ كبير، مؤكدين في السياق ذاته، أن الأمر كان يتطلب على الأقل إزالة العديد من الفجوات والعراقيل التي لا زالت قائمة، خصوصا ما تعلق بالتركيبة المجتمعية للريف الحضني وغيرها. وبرأي هؤلاء المختصين دائما، فإن نجاح لأي تجربة جديدة يتطلب القيام بدراسات جديدة تشتغل على تشخيص ظروف وأسباب فشل التجارب السابقة منها، ومحاولة تفاديها في المستقبل، حتى لا يصبح المال العام مطية لإثراء بعض الدخلاء عن القطاع، على حساب مصدر رزق المئات من الفلاحين الفقراء الذين لم يعد لهم موطئ قدم في حرفة الأجداد، على رأي هؤلاء المختصين.منطقة المعذر.. الشجرة التي تغطي الغابةتعد منطقة المعذر الفلاحية، الواقعة على بعد كيلومترات قليلة عن مدينة بوسعادة، بمثابة قطب فلاحي بامتياز، وللأسف فإن هذه النظرة التي حملت معها الكثير من البشائر للفلاحين شجعتهم في وقت مضى على ركوب تجربة، ولِمَ لا تجارب أخرى في مناطق أخرى من إقليم الولاية، لم تلبث أن غرقت هي كذلك في متاهات الشعبوية التي انتهجها كثير من المسؤولين المحليين، من مديرين حوّلوا عقارب الزمن إلى هذه المنطقة وأهلها وأضحت لديهم الحظوة في أموال الدعم وفي عمليات المسح وغيرها، وولاة جمهورية مروا من هنا ولا هَمَّ لهم سوى “صناعة الكاريار” كما يقال، فاعتبروا المعذر “كاليفورنيا الجنوب”، وأضحت بمثابة الشجرة التي تغطي غابة الفشل الذي طال منظومة الفلاحة وحال دون تطويرها، وحوّلوها إلى محج للوزراء على اختلاف مشاربهم وحقائبهم، وكثيرا ما استغرق فيها الوزير السابق بن عيسى واعتبرها مثالا يُحتذى، رغم علمه أن شجرة المعذر لا يمكن بأي حال من الأحوال تغطية غابة قطاعه المفتوح على الكثير من الفضائح والانتكاسات.المصالح الفلاحية.. المرتبة الأولى وطنيا في صناعة التقارير الجوفاءيجزم مختصون في الفلاحة في الولاية بأن على مديرية المصالح الفلاحية بالمسيلة إنجاز تقرير مفصل يكشف خبايا القطاع، تقرير لا يجانب الواقع ويضع الأصبع على الجرح على الأقل على مدى 10 سنوات أخرى قادمة. ويأتي هذا الانطباع في ظل التراكمات الكثيرة التي عاشها ويعيشها القطاع منذ عشريتين، تاريخ إطلاق العديد من برامج الدعم لمختلف الشُعَب الفلاحية. تقرير يفضح ممارسات القلة القليلة المهيمنة منذ أمد طويل على القطاع، هي من “يرفد ويحط” كما يقال، والدليل أن هذه الأخيرة كثيرا ما أصدرت تقارير جوفاء محشوة بالأرقام دلائلها “صفر” إلى الشمال على أرض الواقع. هذا الواقع يتمثل في محيطات جرَّت على مئات المستفيدين منها أذيالَ الخيبة، خسائر بالملايير في تجهيزات أكلها الصدأ، بيروقراطية تخنق فقراء الفلاحين، و “نجاح وهمي” على الورق عادة ما يبدأ ديباجته هكذا “يُحكى أن القطاع بالولاية عرف نقلة نوعية بعد سنة 1999، ومكّن من توفير 13 ألف منصب شغل دائم، و10 آلاف مؤقتة، والرقم قابل للزيادة.. إلى آخره”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات