38serv
كان الطفل الهادئ الخلوق ميلود ذو 14 ربيعا، يلهو قرب بيته بسيدي بلعباس، وهو لا يدري أن أربعة ذئاب بشرية تتربص به لخطف براءته وسرقة الفرحة من قلب والديه. وفي الولاية نفسها وبالطريقة ذاتها، هزت الفاجعة عائلة محمد نجيب الذي قضى مشنوقا بعد أن عبث الجناة بجسده البريء.ولم يكتب للتوأم حواء وآدم بالوادي عمرا طويلا؛ لأن من خرجا من صلبه كتم أنفاسهما، مثلما فعل والد التوأم الحسن والحسين في ميلة.. هكذا هو حال الطفولة في الجزائر عشية الاحتفال بعيدها، فبأي حال عدت يا عيد؟الحضن العائلي لم يعد هو الآخر آمنالا تلبث السكينة أن ترخي سدولها على قلوب الجزائريين، إلا ويعود هاجس الخوف من سارقي أحلام الطفولة مع كل خبر جديد لاختطاف أو قتل أو استباحة عرض البراءة. فعائلة الطفل ميلود شعيبي من ولاية سيدي بلعباس، لم يخطر في بالها حتى في أشد كوابيسها بشاعة بأنها ستفارق ابنها ميلود الهادئ النجيب، وبأي طريقة؟!قاتل ميلود مشى في الجنازة!كانت صبيحة باردة من يوم 26 ديسمبر الماضي، عندما خرج ميلود شعيبي ليلهو.. مضت ساعة ثم أخرى ثم ساعات.. ولم يعد. بدأ القلق يسيطر على عائلته وقلب أمه الذي شعر أن مكروها أصابه، تجند الجميع في حي “كاستور” بمدينة ابن باديس للبحث عنه، لكن لا أثر لميلود.. الأيام التالية لم تحمل البشرى التي كانت تنتظرها العائلة، وصدق حدس الأم عندما بلغتها الفاجعة.. العثور على جثة ميلود ملفوفة في كيس بلاستيكي على بعد حوالي 150 مترا عن المقر السكني العائلي.لم يمض وقت طويل على المأساة حتى بدأت خيوط الجريمة تتبين، ميلود كُتمت أنفاسه غير بعيد عن بيته العائلي. فينما كانت الجميع متجندا للبحث عنه، كان ميلود بين أيدي يد أربعة شبان، ثلاثة منهم إخوة، يقطنون حوالي 200 متر فقط عن المقر السكني للضحية ببلدية ابن باديس، اختطفوه واحتجزوه في مكان مغلق قبل أن يعتدوا عليه جنسيا ويضعوا حدا لحياته خنقا بعد فترة وجيزة من تعرضه للإغماء، ثم وضعوا جثته داخل كيس. وأكثر من هذا، تجرأ أحدهم بالمشاركة في الجنازة والمناداة بالقصاص من الجناة!وأكد وكيل الجمهورية لدى محكمة ابن باديس التابعة لمجلس قضاء سيدي بلعباس، السيد بريني الجيلالي، أن المتهمين باغتصاب وقتل الطفل شعيبي ميلود البالغ من العمر 14 سنة، يتمتعون بكامل قواهم العقلية وغير مسبوقين قضائيا، باستثناء متهم واحد سبق أن توبع بتهمة السرقة، ووجهت لهم تهم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد والاختطاف مع التعذيب الجسدي، إضافة إلى تهمة ثالثة متعلقة بالاعتداء جنسيا على قاصر لم يبلغ بعد 16 سنة.محمد نجيب يلتحق بميلودقبل أن تُضمّد مدينة سيدي بلعباس جراحها، وتضع عنها ثوب الحداد حزنا على ابنها ميلود، هزتها فاجعة أخرى بعد نحو ثلاثة أشهر، كان ضحيتها الطفل غنيم محمد نجيب ذو الأربع سنوات، والمأساوي أن نهايته كانت بالطريقة نفسها.. اعتداء جنسي متبوع بالقتل.محمد نجيب مدلل جدته التي لم تجف دموعها بعد، وقرة عين أمه التي لم يغمض لها جف منذ غاب حبيب قلبها، وفقيد الأب الجيلالي الذي لم يستوعب بعد أنه وضع بيديه التراب على جثمان فلذة كبده، خرج ليلهو كعادته مطمئن النفس.. لكن لصوص البراءة الذين استباحوا قبله دم ابن مدينته ميلود، كانوا يتربصون به، فغاب عن الأنظار في غفلة من عائلته...24 ساعة بعد غياب محمد نجيب، مرت كأنها الدهر لعائلته، وصل الخبر المفجع، العثور على محمد نجيب جثة هامدة وسط أشجار الزيتون على بعد أمتار فقط من قرية “الصفصاف” الكائنة بالمخرج الغربي لبلدية بن باديس.. وتبين أنه قتل شنقا بعد أن تم اختطافه وتعرّضه للاغتصاب. محمد ذبح أمام بيتهوخلال شهر فيفري من السنة الجارية، كانت بلدية الحميز بالعاصمة مسرحا لجريمة قتل راح ضحيتها الطفل محمد بن عمر، 7 سنوات، الذي كان يلعب عند مدخل بيته رفقة شقيقه الصغير، عندما باغته جاره الثلاثيني حاملا خنجرا حادا وأنهى حياته بذبحه، وتركه ينزف ويتخبط وهو يحاول صعود السلالم بمفرده.مشى الطفل الصغير خطوات متعثرة ليسلم الروح بين يدي والده الذي احتضنه وهو غير مصدق بأن صغيره يصارع الموت، بعد أن كان قبل لحظات فقط ينبض بالحياة ويلهو وصدى ضحكاته يتردد، أمسك الأب المكلوم جسد ابنه النحيل وراح يتأمل وجهه البريء وهو يفقد الحياة ويتحول لونه إلى الأبيض ويداه تزرق.. فراح يبكي ويصرخ مرددا “ابني شهيد.. ابني شهيد”.رجح الجيران فرضية اختلال الجاني نفسيا، وهو الذي يشتغل سائق شاحنة من الوزن الثقيل، إذ قال البعض إنه يعاني نوبات نفسية ظرفية، قبل أن يأمر وكيل الجمهورية لدى محكمة الرويبة بالعاصمة، بإجراء خبرة طبية حول القدرات العقلية والنفسية للجاني.آدم وحواء.. عصفورا الجنةلصوص أحلام الطفولة ليسوا فقط غرباء ومجهولين لا تجمعهم علاقة قرابة مع الضحايا، فالبراءة لم تسلم حتى من أقرب الناس إليها، وهو حال آدم وحواء، عصورا الجنة اللذان لم يدم مستقرهما في الدنيا إلا 28 يوما، لأن والدهما آثر التضحية بهما لإخماد ثورة غضبه، تاركا أما نافسا مفجوعة وعائلة لم تستفق من صدمة جريمة غير عادية.. أعادت آدم وحواء إلى جنتهما الأبدية.الجريمة المأسوية كانت مدينة وادي سوف الهادئة مسرحا لتفاصيلها المروعة في 16 من الشهر الجاري، عندما كانت الأم النافس في بيت عائلتها ترتاح بعد إنجابها لابنيها قبل 28 يوما.عاد الزوج الذي يقيم مع عائلته في حاسي مسعود إلى مسقط رأسه لإعادة زوجته إلى بيت الزوجية، إلا أن الزوجة التي لم تتعاف بعد من آثار العملية القيصرية، طلبت من زوجها تركها لترتاح أياما أخرى.. إلا أن الأخير جن جنونه وفقد أعصابه ولم يجد إلا الرضيعين بجسديهما الغض ليطفئ نار غضبه.. فحملهما بكل ما أوتي من قوة، متناسيا أن الملاكين من صلبه، ورمى بهما إلى الجدار ليسقطا جثتين هامدتين، أمام أنظار الأم التي لم تستوعب هول الفاجعة.أزعجه بكاء الحسين.. فترك الحسن وحيدامأساة التوأم حواء وآدم، سبق وأن شهدت مدينة ميلة في شهر رمضان الماضي تفاصيلها، الاختلاف فيها كان اسم الضحية الحسن الذي أزهق روحه من أنجبه للحياة، تاركا توأمه يبكي فراق نصفه الثاني.وقعت الجريمة المروعة التي اهتزت لها منطقة واد العثمانية في ولاية ميلة، أياما قليلة قبل عيد الفطر، عندما نفذ الزوج تهديده الذي كان يكرره كل مرة أمام أسماع زوجته بأنه سيقوم بقتل الطفل ذي السبعة أشهر؛ لأن بكاءه أزعجه!وحسب ما كشفته أم الضحية أثناء التحقيق الأمني، فإن زوجها كان رافضا لتواجد التوأمين بينهما. ويوم الوقائع قصدت الأم المفجوعة منزل عائلتها رفقة توأم الضحية، وتركت هذا الأخير مع والده، وعند عودتها وجدت زوجها جالسا بالقرب من رضيعها الحسن الذي كان يعاني ضيقا في التنفس. ورغم محاولتها إسعافه ونقله إلى المستشفى، إلا أنه توفي في الطريق، قبل أن يتبين أن الزوج هو قاتل فلذة كبده الذي رزق به رفقة شقيقه التوأم بعد 4 سنوات من الزواج.والغريب أن القاتل الذي لم يرحم براءة ابنه، برّر فعلته بالألم الشديد الذي أصابه ذاك اليوم وبالبكاء القوي والمستمر للضحية.الأستاذ في علم النفس، خالد عبد السلام“المطلوب استحداث نصوص تتماشى وتطور الجريمة”قدم أستاذ علم النفس بجامعة سطيف 2، خالد عبد السلام، تحليلا حول تصاعد الجرائم المقترفة ضد الأطفال في الجزائر، والأسباب الخفية النفسية التي تدفع الجناة إلى استهداف الأطفال. ويرى الأكاديمي في حوار مع “الخبر” أن الفضاء الافتراضي تحوّل إلى أداة لعدة جرائم تطال الأطفال.ما هي الدوافع النفسية وراء تنامي الإجرام ضد الأطفال؟كل الظواهر الاجتماعية ليست وليدة الصدفة، بقدر ما هي إفرازات لتحوّلات ثقافية واجتماعية وسياسية ونفسية يمر بها المجتمع الجزائري، وتؤثر في طريقة التفكير والتصرفات، وأوصلتنا في النهاية إلى انقلاب رهيب في سلم القيم الاجتماعية، فقد أصبحت ثقافة العنف والإجرام اللغة السائدة والمسيطرة في كل مجالات الحياة.ما دور وسائل الاتصال الحديثة في تنامي الظاهرة؟ غذت التفاعلات الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي ثقافة العنف بالقتل والذبح والتنكيل بشكل مفضوح. هناك برامج تلفزيونية موجهة للأطفال تبث مضامين عنف دون تأنيب أو نقد أو جزاء له، بالتالي فهي تعمل على تبسيطه في ذهن المشاهد وجعلها مقبولة، ما يؤدي إلى ترجمته في الواقع حتى ضد البراءة. فكثيرا ما تكون مشاهد القتل والذبح والاختطاف في الألعاب الإلكترونية الموجهة للأطفال والمراهقين، وهو ما انعكس في إعادة ترجمتها واقعيا، وأرسى ثقافة الانتقام بأبشع الطرق حتى بتوظيف الأطفال. كما أنوّه أن تعقّد الحياة والفراغ والبطالة تدفع الكثير من المجرمين إلى استهداف الأطفال لابتزاز آبائهم الأثرياء، خاصة إذا كانوا مدمنين على المخدرات، فيقدموا على خطف الأطفال.ما هي الحلول المقترحة؟ أرى أن البدائل التي يجب التعويل عليها لمحاصرة الظاهرة، تكمن في تعزيز مؤسسات الشباب ولجان الأحياء بمختصين في مختلف العلوم النفسية والاجتماعية، ذوي الكفاءة العلمية والنزاهة الأخلاقية، إلى جانب الاهتمام بمشكلات الشباب وقضاياه لمحاصرة بؤر الانحراف والجريمة من جميع النواحي. وعلى الصعيد القانوني، يجب تدعيم المنظومة التشريعية بنصوص قانونية تتجاوب مع تطورات أشكال الجريمة وتعقيداتها، وضرورة تنبي العقاب الردعي ضد المجرمين المنتهكين للقواعد الاجتماعية، خاصة الجرائم ضد الأطفال، إلى جانب النصوص التي تشدد على دور الأسرة ومسؤوليتها تجاه أبنائها.مكتب حماية الطفولة وجنوح الأحداث للشرطة10 أطفال قتلوا خلال أربعة أشهرسجل مكتب حماية الطفولة وجنوح الأحداث بمديرية الشرطة القضائية للأمن الوطني، 10 جرائم قتل طالت الأطفال في ظرف 4 أشهر الأخيرة، بينهم فتاة، و20 جريمة قتل سنة 2015، و11 جريمة في 2014.وذكرت رئيسة مكتب حماية الطفولة وجنوح الأحداث، عميد أول للشرطة، خيرة مسعودان، في لقاء مع “الخبر”، أن هناك تطورا خطيرا فيما يخص الأشخاص الذين يقترفون جرائم قتل ضد الأطفال، حيث “لا حظنا في عدة قضايا إقدام الأولياء على إنهاء حياة فلذات أكبادهم على خلفية نزاعات أسرية أو مالية بداعي الانتقام من الخصوم”.ولاحظت المتحدثة في تحليلها لوقائع جرائم القتل وملابساتها، أن الجناة الذين ينفذون جرائم القتل ينتمون إلى محيط الضحايا، مرجعة السبب إلى المشاكل الاجتماعية والأسرية والخصومات القضائية والمخدرات، التي ساهمت في إحداث ما وصفته بالأزمة الأخلاقية. كما كشفت مسعودان عن إحصاء 3753 طفل ضحية الاعتداءات الجنسية منذ سنة 2014، منهم 2100 فتاة، مشيرة إلى أن سنة 2016 شهدت 554 حالة خلال الأربعة أشهر الأخيرة.ونفت المتحدثة وجود جرائم اختطاف الأطفال بغرض نزع أعضائهم واستعمالها في أنشطة بيع خارج التراب الوطني، أو حتى داخله، معتبرة ما يروج عن تسجيل عصابات بيع الأعضاء غير معقول؛ كونه عمليات زرع الأعضاء تتطلب تحاليل دقيقة ومتابعة طبية مستمرة للمتبرع وللمستفيد، في حين قد يتم تسجيل محاولات سرقة أعضاء بشرية للموتى لتوظيفها في الشعوذة مثلا.المحامي حامدي عبد الرحيم“الترسانة القانونية تمنح حصانـة كبـيرة للطفـل”يرى الأستاذ المحامي حامدي عبد الرحيم، بأن المشرّع الجزائري وضع شقا خاصا متعلقا بالجرائم المرتكبة ضد الأطفال، بما فيها جرائم القتل: “وذلك منذ نشأة قانون العقوبات”، مشيرا في سياق متصل إلى أن الترسانة القانونية في الجزائر تعد بمنزلة أحسن التشريعات مقارنة بما هو متوفر عبر العديد من دول العالم، في إشارة ضمنية منه إلى قانون حماية الطفل الجزائري الصادر سنة 2015. ويرفض المتحدث استعمال مصطلح “تجدد” الجرائم المرتكبة ضد الأطفال في الجزائر: “بحكم أن مجتمعنا لطالما عاش على وقع هذا النوع من الأحداث المؤسفة منذ القدم”، مرجعا استعمال المصطلح المذكور آنفا إلى التطور الحاصل في الشق المتعلق بالإعلام “الذي بات يتطرق إلى أبسط المعطيات في هذا النوع من القضايا، ما جعل هذه الأخيرة تعود بقوة إلى ذهن المواطن الجزائري وهو في بيته”، كما قال. ويرى الأستاذ حامدي عبد الرحيم بأن البت في هذا النوع من القضايا يتم بعيدا كل البعد عن العاطفة: “وهو ما تؤكده الأحكام الصادرة ضد من يتم التأكد في ضلوعهم في ارتكاب جرائم قتل في حق الأطفال”، حسب المتحدث، الذي لمح إلى الأهمية البالغة التي يوليها القضاء الجزائري إلى القضايا ذاتها: “وذلك من خلال تخصيص جلسات مغلقة للبت فيها تفاديا لأي نوع من أنواع الحساسيات، نظير إجراءات خاصة وسط تواجد قضاة مميزين من الفئة التي لها باع طويل وخبرة في المجال”.الأخصائية في علم النفس الاجتماعي، فاسي زهرة“انهيار القيم في المجتمع وراء جرائم الأطفال”ترى أستاذة علم النفس الاجتماعي، زهرة فاسي، أن استهداف الطفل بالقتل في الجزائر، هو حلقة من سلسلة جرائم تبدأ بمحاولة التعدي عليه جنسيا أو ابتزاز أوليائه، أو خلافات مالية معهم، أو نزاعات وانتقامات أسرية عن الميراث، وتنتهي غالبا بقتل الطفل لإخفاء الجريمة والإفلات من العقاب، وهو ما يترجم أزمة أخلاق عميقة تنخر المجتمع وتؤدي إلى تمزيق نسيجه مع مرور الوقت. ووصفت المتحدثة ما يقع من جرائم ضد الأطفال، هو نتاج انهيار القيم في المجتمع، فقد أصبح الطفل وسيلة لتصفية الحسابات في عدة قضايا، لاسيما العائلية، كإقدام زوجات عجزن عن الإنجاب على قتل أطفال ضرتهن بدافع الغيرة. ولاحظت فاسي أن “المجتمع هو من يصنع الجريمة ويرفضها، ويطالب بالقصاص من المتورطين، في ظل غياب قوانين ردعية تحاسب المجرمين بشكل حازم. وعليه يجب على الدولة تنظيم حركية المجتمع بفرض ميكانيزمات قانونية وأمنية، وأخرى تربوية”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات