38serv

+ -

تشهد الساحة التراثية الثقافية بالجزائر، بداية من الـثامن عشر من شهر أفريل من كل عام وعلى مدار شهر كامل بمناسبة شهر التراث، حركة نشيطة على مستوى التراث المادي المتموقع جغرافيا في كبد الجزائر العميقة والضارب تاريخيا في جذور الحضارة الفسيفسائية الجزائرية، مما خوّلها أن تكون مزيجا متجانسا بين آثار صحراوية معانقة لأحسن غروب شمس عالميا، وحزام ساحلي شمالي متناثر الأطراف متعدد المشاهد، وتلال داخلية حبلى بقصورها الصامدة في وجه التاريخ صمود الأوراس في وجه المستعمر، هذا المستعمر الذي وعلى الرغم من جرائمه البشعة في حق الأبرياء والعزّل، إلا أن أصالة التراث الجزائري أجبرته على الاعتراف به كتراث مادي، ومن بين هذا التراث تفرض قلعة “منعة” بولاية باتنة أو “ثاقليعث ن منعة” مثلما يُطلق عليها باللهجة المحلية هناك نفسها، كأبرز تراث مادي مهمّش سياحيا وثقافيا ليتحول إلى تراث مُحتضِر في شهر التراث. الزائر لبلدية “منعة” لا يجد صعوبة كبيرة في البحث والتنقيب على هذا المعلم الأثري والتاريخي نتيجة تموقعه الطبوغرافي عاليا بجبال الأوراس الشامخة، فضلا عن تموقعه الجغرافي المرحِّب بزائر المدينة نتيجة تواجده بمدخلها مباشرة..القلعة الشامخة الرأس ومفخرة الأوراستعود تلك البنايات المتجاورة ببعضها البعض مشكّلة خلية سكنية وإبداعا هندسيا مميزا يعود بتاريخ تأسيس هذا الصرح الأثري حوالي ثماني إلى عشرة قرون إلى الخلف، حيث استغرق بناؤه وتشييده ليكون على شكله الحالي مدة مائتي سنة من الجهود البدنية والهندسية، جامعا بذلك مختلف الحضارات والشعوب التي تداولت وأقامت واستقرت بها، خصوصا الرومان، الوندال، البيزنطيين والمسلمين، لتكون هذه القلعة بمثابة المفخرة التراثية لسكان عاصمة الأوراس على مر العصور. ولأن القلعة كانت نقطة التقاء وادي بوزينة ووادي عبدي، بعد أن شيّدت على جبل صخري منحدر في شكل بيضاوي، فقد كانت قرية فلاحية بامتياز وبستان مفتوح على أشجار ثمرة المشمش والتي تُعد من أجود أنواع المشمش على المستوى الوطني نتيجة عذوبة الماء المسقية به ونقاوة الهواء المميز لبراري وحقول المنطقة.القلعة تحولت إلى مدرسة لطلبة العمارة والهندسةسمحت طريقة البناء والتوزيع السكني الخاص بهذه السكنات بجعل وتحويل هذه القلعة إلى مقصد وقِبلة حقيقية لطلبة العمارة والهندسة، يحجُّون إليها مع كل موسم بحثي، لأداء مناسك التنقيب المعرفي ومحاكاة طريقة التصميم الهندسي لها في مختلف مشاريعهم البحثية، ولم يتولد هذا الإقبال من فراغ أو عدم، بل لكونها نموذجا حيا لفن العمارة المحلية القديمة المشهورة لدى الأمازيغ، حيث أخذت في شكلها العام منظرا يشبه إلى حد بعيد المدرج أو باخرة راسية في عمق الربوة التي تكسوها المنازل الملتصقة ببعضها البعض، والمبنية بالطين الممزوج والحجارة، فضلا عن استعمال أعمدة الخشب كسنام للمنزل، مع علو كل منزل عن آخر بمسافة تتراوح بين المتر والمترين، تِبَعا لمتغير الارتفاع عن سطح البحر، وهي المنازل المتكونة من طابقين يستخدم السفلي منها لادّخار الحنطة وأعلاف المواشي والحطب، في الوقت الذي يتخذ أصحاب القلعة من الطابق العلوي سكنا لهم، وهو التقسيم الذي يحمل العديد من الدلالات الرمزية، أبرزها نمط العيش للسكان المعتمد بشكل أساسي على الزراعة والمواشي، وكذا الصداقة الكبيرة التي جمعت الإنسان المحلي بالطبيعة والحيوان، كما أن الإبداع الهندسي الذي ميّز القلعة في منظرها الخارجي، كان كذلك بالنسبة لمنظرها الداخلي الذي تُزيِّنُه أشباه الأنفاق تسمى باللهجة المحلية “أسقيف”، وهي التي تقتصر على المنازل المحاذية للطريق، حيث يقوم صاحب المنزل بتسقيف المساحة الفوقية بينه وبين المنزل المقابل على الجهة الأخرى للطريق، متخذا سكنا فوق النفق يسمى باسم صاحب المنزل، ومكوّنا بذلك ممرا وسط الطرقات التي صمّمت لمرور الماشية بسهولة، زادتها بعض المساحات الفارقة المخصصة للتجمعات ولعب الأطفال جمالا هندسيا أكبر. وهو الجمال الهندسي الذي لم يغفل إجراءات الأمن والسلامة العمرانية في مخططاته، حيث تُحاط القلعة في الأسفل بسور دائري في قاعدتها يتخلّله خمسة أبواب تُغلق في الفترة الليلية وتفتح في الفترة الصباحية، ولها مدخلين رئيسيين، الأول من الجهة الشرقية ويصطلح عليه باللهجة المحلية “أغزديس” والثاني من الجهة الغربية ويسمى “إغزر بوراس” ويتم غلقهما أيضا في الفترة الليلية لمنع دخول أي غريب ولتفادي مباغتة العدو للسكان، وقد وصلت صرامة التعليمات الأمنية إلى سن أمرية بعدم دخول حتى أصحاب القرية إليها في الفترة الليلية إلى غاية الصباح في حال تواجده خارجها.ثاسريفث وثافسوث مساحيق تجميل طبيعية لقلعة منعةجمال القلعة لم يتوقف عند حدود التفاصيل الدقيقة لهندستها الداخلية ولا لمنظرها الخارجي، بل انعكس بجماله على جغرافية المنطقة التي تزيّنت بتجمّع المياه أسفل الجبال، مشكِّلة بذلك شلالا صغيرا نحو حقول الفلاحين بالمنطقة، وهو الذي يتحول إلى قبلة للسوّاح، خصوصا خلال مهرجان ثافسوث “الربيع الأمازيغي” الذي تشهده المنطقة مع بداية كل موسم ربيع أمازيغي. ويعدّ المهرجان بمثابة المنشط الحقيقي للسياحة بالمنطقة، إضافة للمزيج السياحي للمنطقة بداية من الدشرة القديمة الموسومة بـ “ثاقليعث” التي يعود تاريخ بنائها إلى 10 قرون إلى الوراء فوق جبل صخري منحدر بيضوي الشكل ذات ممرات ضيقة ممزوجة ببعض أشباه الأنفاق والتي تسمى باللهجة المحلية بـ “أسقيف”. كما تحوي المنطقة المدرسة القادرية للتعليم القرآني والتي يعود تاريخ بنائها إلى حدود سنة 1760 من طرف مهندس بناء تركي يسمى سطا، وهي المدرسة التي تحوي بجوارها رفاة محمد ومحمود ابني أحمد باي. ولمعرفة رأي السلطات المحلية، اتصلت “الخبر” برئيس بلدية منعة الذي أكد أنه قام بتقديم طلب استفادة من بيت الشباب مصحوب بمحضر اختيار الأرضية والبطاقة التقنية الخاصة بالمشروع على مستوى مديرية الشباب والرياضة، إلا أن العملية غير مسجلة لحد الآن، والأمر نفسه بالنسبة لقاعة محاضرات وعروض وقاعة متعددة النشاطات، كما أن مساعي “المير” لتحويل الدشرة القديمة “ثاقليعث” من تراث طبيعي إلى تراث مادي، لم يتحقق لحد الآن رغم أن ذات الدشرة تم تصنيفها كتراث مادي خلال الحقبة الاستعمارية سنة 1927 و1958 وبعد الاستقلال لم تصنف إلى اليوم رغم نداء الجمعيات والسلطات والسكان، وتخصيص مبالغ مالية لترميمها وجعلها مقصدا سياحيا وصرحا تراثيا تاريخيا بالدرجة الأولى. كما أن رفض الولاية لتقديم إعانات مادية لإحياء التظاهرة بسبب ما يسمونه “أزمة التقشف” يعكس حجم الازدواجية في الخطاب الرسمي بولاية باتنة، بعد أن أكد والي الولاية في أكثر من مرة تشجيعه للاستثمار في الجانب السياحي للمنطقة في ظل المواقع السياحية المهمة لهذه المنطقة.       

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات