38serv
ها قد أقبل شهر رمضان بأوقاته المباركات ونفحاته الطيبات ونسائمه المفضلات، فيحق لكل مسلم أن يغتنمه ويتفرغ للتزود منه لآخرته، وتكفير سيئاته ورفع درجاته ومراجعة صحائف أعماله وتهذيب أخلاقه وسلوكاته.بإمكان كل مُخلص مُتعبد أن ينال فضل رمضان إن هو اعتزل الناس، حيث لا يُشوش عليه أحد ولا يتسبب في خدش صيامه أي فرد، يخرج وقت ما يراه وقت خروج، ويدخل وقت ما يراه وقت دخول، ويُرتب أوقات تلاوته، وحتى صلاته بالليل إذا أراد أن يقيمها مع أهله، فإن له أن يُطول أو يُقصر ما شاء. وبإمكان كل فرد أن يتعبد الله على انفراد، ويستشعر روحانية هذا الشهر، ويستلذ بكل ما فيه من وجوه العبادات إذا أخلص النية في الصوم والطعام والنوم والقيام إلا الإمام، فإنه يُواجه كل أنواع الضغط من الناس وما يترتب عليهم من آثار الصيام، وكل الآراء المتداخلة والمختلفة وحتى المتخالفة، فتضيع أوقاته في ترضية هذا، ويبذل جهدًا حتى لا يَسخط ذاك، ويُشغَل عن أنواعٍ من العبادات، وتُكسر عليه أوقات الخلوات، حين يُحاصر من كل جانب.فهذا يطلب قارئًا أو يرفضه، وهذا يريد أن يدعو مدرسًا أو يصده لأنه لا يوافقه، وآخر غرضه التخفيف في صلاة التراويح، ورابع يرى من الضرورة ختم القرآن ويليه آخر ضده، ولا يستريح الإمام وهو يسعى ليُهدئ هذا ويُقنع ذاك، وقد يصل الأمر إلى أن يتنازل عن حقوقه وواجباته ومع ذلك لا يرضى من يُخالفه ويُعانده، وهكذا تمضي الأيام الأولى من رمضان على الإمام، ولا يكاد ينتصف الشهر حتى تظهر موجة أخرى من المعضلات إذا جاءت العشر الأواخر وشُرع في التهجد، أما إذا بلغ الشهر منتهاه وجاء دور الاستعداد للعيد فعَوْدٌ على بدء. إن كثيرًا من الناس ربما يظن أن الإمام لا يصوم، أو أنه ممن بلغ درجة اليقين فارتفعت عنه تكاليف الدين، كما عند بعض المارقين، أو أنه هو من فرض الصيام وليس مفروضًا عليه، وأنه لا يتعب كما يتعبون، أو أن عمله ووظيفته ومجهوداته لا تستهلك منه طاقة ولا وقتًا ولا تُمثل له شُغلا، كأنه متفرغ بطال هادر للوقت والحياة، ولا يصيبه صُداع اليوم الأول كما يُصابون، لذلك نجد فئة من الناس يَصُبون على الأئمة وابلاً من اللوم والعتاب في أبسط النقائص ولو كان المتسبب فيها مِن بعضهم، فبعض الصائمين سامحهم الله إذا أتى المسجد ولم يجد تمرًا يُفطر عليه حمل ذلك للإمام ولو وفره لولا أن الناس ينهبون منه بأكثر من القدر الذي يُفطرون عليه، والآخر إذا وجد تمرًا وأفطر وأراد أن يرتوي ووجد الماء غير مُبردٍ أيقظ في المسجد فتنة نائمة.ومن المعلوم أن المصلين يحرصون على إحياء ليالي رمضان بالعبادة، ويحرصون على أن يلتزم أولادهم المسجد، ولذلك يكثر الصبيان والأطفال في المساجد، فيُحدثون ضجيجًا وأصواتًا ويُقلقون المصلين. وليس الصغار وحدهم بل حتى الكبار الذين يجلسون في الخلف يرقُبون ركوع الإمام، فيا ترى على مَن يُلقى باللوم؟ طبعًا على الإمام الذي ربما ينبغي أن يَؤُم الناس ولكن من الخلف ليراقب ويمنع ذلك.وإن شهر رمضان شهر الصبر، وشهر التحمل، وشهر الاجتهاد، وشهر البذل، وشهر الدعوة، وشهر الأخلاق الرفيعة، وليس شهر التخاصم والاختلاف، واختراع المشكلات والاستخفاف بالمجهودات، شهر رمضان للجود والتجويد والجيد من الأعمال، وليس للرداءة والبذاءة والتصرف على طريقة الجهال الذين لا يعرفون حق الكبير ولا الصغير، ولا يُميزون بين المسجد والشارع، ولا علم لهم بالمشروع والممنوع، أو المباح والمكروه، يحسبون المسجد مقر جمعيةٍ ما، أو نادٍ من النوادي، أو يتصرفون على أنهم في مقهى، فهذا يتمنى لو أنه يأتي لصلاة المغرب فيُصلي، ثم يُحضَر له طعامه فيتناوله دون الذهاب إلى البيت، والآخر يرجو أن تكون مدة الإقامة بعد الأذان أطول حتى يطعم في بيته ثم يأتي فلا تفوته الصلاة ولا يفوته الإطعام، وآخر يريد من الإمام أن يُقيم صلاة المغرب مباشرة بغد الفراغ من الأذان ولو على حساب إفطار المؤذن، ثم يأتي من هو على نقيضه ممن يريد أن يكون هناك فاصل زمني ليُصلي ركعتين أو يتناول نصف إفطار من تمر ولبن وماء ورغيف وبوراكٍ..فأنى لذكي وعبقري أن يُرضي كل الأطراف لاسيما أن الأمنيات في هذا المجال واسعة، ومُعظمها مستحيلة التحقق للزمان والمكان والظروف التي نعيشها. ومع توفر العديد من المتطلبات الأخرى التي من شأنها أن يجد المسلم راحته في المسجد، إلا أن العديد من المصلين لا يزالون يتسخطون، لأنهم يشتهون ما لا يجدون، ويغفلون عما هم فيه مُنعمون، ولأنهم لا يُحاولون الاستفادة من المواعظ والدروس، ولا يلتحقون بحلقات القرآن الكريم، ولا يتعلمون من جلسات الفقه والأخلاق ما يُمكنهم من تحسين أخلاقهم وإصلاح عبادتهم، فهم يضجرون في المساجد التي ينبغي أن يكونوا فيها مطمئنين، ويتخاصمون بدل أن يكونوا إخوة متعاونين، ويتنافرون بينما يُطلب منهم أن يكونوا مجتمعين، فتضيع أوقاتهم حتى في المسجد، فهلا تبصرنا بعيوبنا، وأشفقنا على أنفسنا، وتركنا مجال الإمامة لأهلها، وأعناهم بسكوتنا، واشتغلنا بعبادتنا خصوصًا في رمضان؟
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات