38serv

+ -

مرّت أربعون يومًا على رحيل العالم الموسوعي والفيلسوف والمؤرّخ للفكر والحضارة الإسلامية، البروفسور بوعمران الشّيخ رحمه الله تعالى، تاركًا وراءه تراثًا ضخمًافي الفلسفة والتراث والفكر، يخدم وطنه وأمّته. زرته قبل 3 أشهر من رحيله في مكتبه بالمجلس الإسلامي الأعلى، وكان قد أنهكه المرض، وكنتُ أجلس في مواجهته نتجاذب أطراف الحديث عن وضع الصّحافة في الجزائر عمومًا و “الخبر” خصوصًا، حيث اتّفقتُ معه على إجراء عدّة مقابلات لتدوين سيرته الشّخصية لصالح الجريدة، إلاّ أنّ العياء الشّديد أنهكه وغاب طيلة تلك المدّة، لينتقل إلى الرّفيق الأعلى.نسبهأكّدت الدكتورة فضيلة بوعمران، ابنة المرحوم بوعمران الشيخ، في دراسة لها أهدتها لـ “الخبر”، أنّ أوّل مَن اهتمّ بأصل الأسرة هو عمّ الشيخ بوعمران الّذي يحمل اسم الشيخ بن محمد. مشيرة إلى أنّ الأسرة تنتمي إلى قبيلة “الشنايف” نسبة للجد سيدي علي بوشنافة، وهم من الشُّرفاء المنحدرين من مولاي إدريس، ويعترف لهم سكان البيض بنسبهم الشّريف. مستأنسة بكتاب ألّفه خليفة بن عمارة بعنوان “شرفاء الجنوب الغربي” (دار الغرب للنشر) يشير إلى شجرة سيدي علي بوشنافة الّتي تصل إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.مولدهولد الشيخ بوعمران سنة 1924م بقرية مكثر (سمي المكان مكثر لكثرة بساتينه ووفرة غلته)، وهي قرية تبعد 7 كم عن مدينة البيض. والده امحمّد (ابن محمد بن أحمد بن الماحي من الشنايف، والحبيبة بنت مهيدي من قبيلة المناصرية). وأمّه منصورة (ابنة الصغير بن جبارة الجبيري، ومسعودة، وكلاهما من فرع قبيلة الشنايف المستقر في ستيتن).سمّي المرحوم الشيخ باسم عمّه كما كانت جرت العادة أن يُطلق على الأبناء اسم الأجداد والأعمام، واسم الشيخ كثير الرواج في المنطقة تبرّكًا بالشيخ بوعمامة الّذي قاد أطول ثورة ضدّ الاحتلال الفرنسي دامت 27 سنة.للشيخ 5 إخوة: محمد، عبد القادر، أحمد، ميلود وبوعلام، و3 أخوات: عائشة، فاطنة ومباركة. أمّا الشيخ فهو أوّل ابن عند والديه، وجاء بعد أخته عائشة الّتي تفوقه بسنتين. أما ميلود فتوفي سنة 1967 وأحمد سنة 2010 رحمهما الله. والقية لا يزالون أحياء.ترعرع الشيخ في أسرة ليست ميسورة، ولكن لها الحدّ الأدنى الضروري للعيش بفضل ما تنتجه الأرض الّتي تملكها بمكثر، والّتي يخدمها الأب والأعمام، وما يملكونه من المواشي. أمّا الوالدة منصورة فكانت تنسج الصوف باعتبار أنّ المنطقة معروفة بطابعها الرعوي وإنتاج الزرابي المعروفة بنمطها (جبل عمور).واللافت للانتباه أنّ والديه عاشَا معًا إلى أن فارقهم الأجل، وهذا ما جعل الأسرة بالتأكيد تعيش في استقرار نفسي دائم.نشأ الشيخ وسط الأسرة الكبيرة كما كانت العادة، بجوار الأعمام وزوجاتهم وأبنائهم، وكانت كلّ نساء الأسرة تشترك في التربية بحيث تسمّى كل واحدة منهنّ “أمي فلانة”.وببلوغ الشيخ سنّ القراءة، أصبح يتردّد على الكتاتيب لحفظ القرآن بالطريقة التقليدية على اللّوحة، ثمّ أرسله أبوه إلى البيض عند العمّ الطالب ليتعلّم اللغة العربية إضافة إلى حفظ القرآن. لكن الشيخ كان يرى أطفالا في مثل سنّه يحفظون القرآن بالكتاتيب ويزاولون الدراسة بالمدارس، فأراد أن يلتحق بالمدرسة مثلهم، إلاّ أن عمّه تراخى وبات يؤجّل تسجيله السنة بعد الأخرى، إلى أن يئس الشيخ وهو في الحادية عشر من عمره، فقرّر العودة إلى أبويه وأجبر أباه على الرحيل إلى البيض لتسجيله في المدرسة، فانتقلت العائلة لتستقرّ بالبيض.وفي تلك الأثناء، اتصل الشيخ بسي ناصر الأستاذ بمدينة الأغواط، حيث كان معجبًا به لسعة ثقافته العربية الإسلامية والفرنسية الّتي اشتهر بها بين أخواله “الشنايف”. فقرّر التوجّه إليه لطلب المساعدة قصد الحصول على منحة التمدرس، وكان الحظّ حليفه فحصل عليها، ما مكّن والده من تسجيله بالمدرسة الابتدائية رغم سنّه المتقدمة سنة 1934.بداية مشواره الدراسيدخل الشيخ بوعمران المدرسة وهو أكبر سنًا من زملائه. وفي السنة الثالثة لاحظ معلّمه الفرنسي فولو ذكاءه وحرصه على التعلم، فقال له “إذا ساعدتني سأقدّمك إلى امتحان شهادة نهاية الدراسات الابتدائية في سنتين عوض أربع، وبإمكانك تدارك الوقت الضائع إن اجتهدت”. وأصبح الشيخ يلتهم الكتاب تلو الآخر ويحفظ قواعد النّحو والصّرف الفرنسي عن ظهر قلب، حتّى اختزل مدة الدراسة والتحق بأقرانه، وواصل الدراسة بشكل عادي إلى أن حصل على شهادة نهاية الدراسات الابتدائية الّتي كانت تفتح آنذاك كثيرًا من الأبواب.وكان الشيخ يجلس ليلاً تحت مصابيح الإنارة العمومية ليدرس دون أن يحرج الأهل، ولا يتسبّب في ارتفاع تكلفة الكهرباء، وأصبح سكان البيض يقدّمونه كمثال لأبنائهم قصد حثّهم على الدراسة. ولا زال أهل البيض يذكرون هذا المثل إلى اليوم.واصل دراسته بالمدرسة التكميلية إلى أن حصل على شهادة الأهلية سنة 1941. ثمّ انتقل إلى مدينة وهران حيث درس في ثانوية لاموريسيار من 1941 إلى 1944، وحصل على شهادة البكالوريا شعبة الآداب سنة 1944. ثمّ تقدّم إلى مسابقة مدرسة المعلّمين ببوزريعة، وهو من فئة الأهالي القليلة الّتي بلغت هذا المستوى التعليمي. وفي الفترة نفسها سجّل في الجامعة لنيل شهادة ليسانس فلسفة، ثمّ ليسانس لغة وأدب عربي. وتخرّج من مدرسة بوزريعة سنة 1946.وفي سنة 1946، شرع في الدراسة الجامعية، وكانت الجامعة الوحيدة بالعاصمة، حيث حصل على ليسانس فلسفة سنة 1948، واللغة والأدب العربي سنة 1954.وفي سنة 1956، انتقل إلى باريس لتحضير شهادة الدراسات المعمقة بجامعة السوربون، لكنّه لم يتمكن من المناقشة بسبب الحرب. ثمّ انتقل إليها مجدّدًا للتربص بالمدرسة العليا للأساتذة في سان كلو بنواحي باريس. كما ناقش سنة 1974 رسالة الدكتوراه في الفلسفة بجامعة السوربون.الشّخصيات الّتي أثرت في الشيختأثّر الشيخ بوعمران بعدد من الشّخصيات من المنطقة والوطن، سواء من الأسرة أو من الشّخصيات المحلية أو الوطنية أو العلماء والفلاسفة المسلمين وغيرهم، ومن بينهم الوالدان بحكم الجو العائلي الّذي ترعرع فيه الشيخ، والّذي كانت تسوده القيم الإسلامية والرّوابط العائلية والاجتماعية القوية وحبّ الوطن والاعتزاز بالتراث العربي الإسلامي، فكان يستمع إلى تلاوة القرآن وقراءة الشعر الملحون قبل أن يذهب إلى المدرسة، فقد ترك والداه بصمات قويّة عليه. وكذا عمّه الطالب الشيخ الّذي قضى عنده 4 سنوات يتعلّم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم. إلى جانب سي الناصر الأستاذ الثانوي في مدينة الأغواط.أمّا الشخصيات المحلية الّتي أثّرت فيه فكان أبرزها سي قدور بن النعيمي معلم اللغة العربية الّذي تعلّم عليه الكثير في المرحلة الابتدائية. أمّا الشّخصيات الوطنية فكان الأمير عبد القادر الجزائري أبرزهم، والّذي بلغت قصّة مقاومته للاحتلال الفرنسي منطقة البيض، وأصبح هو الآخر رمزًا لشبابه وقدوة له. والشيخ بوعمامة الّذي قاد ثورة ضدّ الفرنسيين لأكثر من ربع قرن، وتركت بصماتها في نفوس السكان فأطلقوا اسم الشيخ على أبنائهم. كما حفظوا شعر الشاعر محمد بلخير الّذي رافق الشيخ بوعمامة في جهاده، وظلّ أهل المنطقة يردّدونه وتنشده الأمّهات والجدات لصغارهنّ. بالإضافة إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس الّذي زار مدينة البيض سنة 1934، وكان سنّه لا يتجاوز 10 سنوات، بل سمِع عمّه يتكلم عن عالم جليل يزور المدينة. وقد أعطى فكر ابن باديس دفعًا روحيًا قويًا لمقاومة الاحتلال، خاصة بعد تأسيس جمعية العلماء الّتي فتحت مدارس تابعة لها في غرب البلاد، وسافر عدد من شباب البيض إلى تلمسان للالتحاق بمدارسها. كما شاركت الجمعية في تربية الشباب المنخرط في الكشافة الإسلامية. إلى جانب الزعيم مصالي الحاج الّذي حطّ الرّحال بالبيض سنة 1946 وأقام تظاهرة كبيرة، حينها تعرّف على هذا الزّعيم، وقد انخرط العديد من شباب البيض في حزبه، من بينهم أخوه عبد القادر بوعمران و4 من رفاقه، فاعتقلتهم السلطات الفرنسية بسجن معسكر ثمّ حولتهم إلى سجن سركاجي بالعاصمة. وعلى إثرها بدأت فكرة الاستقلال تراود الشيخ والعديد من شباب البيض.أما أبرز المفكرين والفلاسفة العرب والمسلمين الّذين تأثّر بهم الشيخ، فالعلامة ابن رشد الذي تأثّر بفكره الرّابط بين العقل والدّين تأثّرًا عميقًا، وقد تناول كتبه بالدّراسة فيما بعد، وقام بتقديم كتابه “فصل المقال”. كما تأثّر بفكر رواد النّهضة في القرن 19 وبداية القرن 20، من أمثال جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان. إلى جانب الأستاذ مالك بن نبي، حيث طالع كتبه وهو في الثانوية بمدينة وهران، ووجدت بعض مفاهيم هذا المفكر صدًى قويًا لديه، منها فكرة “القابلية للاستعمار”، وكان له الحظّ في التعرّف عليه عندما أصبح الشّيخ أستاذًا جامعيًا وأصبحَا صديقين، إلى أن توفي مالك بن نبي رحمه الله تعالى. كما تأثّر الشيخ ببعض المفكرين الأوربيين، لكنّه لم يأخذ من فكرهم إلاّ ما كان غير مناقض للعقيدة الإسلامية.مسيرته المهنيةبعد حصول الشيخ بوعمران على البكالوريا، عاد إلى البيض حيث مارس التّدريس لمدة سنة، ثمّ تزوّج سنة 1946 من فاطنة (ابنة محمد بن الطيب الشلالي ومباركة بنت طاب من فرع شنايف ستيتن).لكن الشيخ لم يكتف بمنصب كان يُعتبر من مناصب النّخبة، بل أراد أن يواصل الدراسة بالجامعة، ولذلك كان من الضروري أن يقترب من العاصمة. فحصل على منصب للتّدريس بمدينة مليانة، ويسافر مرّتين في الأسبوع للدّراسة بالجامعة، خاصة أنّه أصبح يتكفّل ماديًا بوالديه وبتعليم إخوته، ثم عُيّنَ بالجزائر سنة 1952 للتعليم بمدرسة شارع رومب فالي (لوني أرزقي حاليًا) قرب مقر ضريح سيّدي عبد الرّحمن الثعالبي.وفي سنة 1956، سافر إلى باريس ومكث بها سنة كاملة للتحضير للتفتيش، فتخرّج مفتّشًا ومارس كمفتش بمدينة مستغانم ثمّ وهران إلى غاية بداية 1962، ثمّ توجّه إلى تلمسان بأمر من تنظيم الثورة بعد أن تعرّض مكتبه إلى التفجير من قبل منظمة الجيش السري الإرهابية (OAS).وفور الإعلان عن الاستقلال، عُيّن مديرًا للتربية بمدينة الأصنام (الشلف) وقام بتحضير الدخول المدرسي الأوّل، ولم يبق فيها إلاّ أسابيع والتحق بديوان وزير التربية (1962-1964). ثمّ أمينًا عامًا للجنة الوطنية لليونسكو (1963-1964). وفي 1964-1965 أسندت له وزارة التربية مهمة لدى وزارة التربية التونسية لمدة سنة كاملة.في الدخول المدرسي 1965-1966، ترك الإدارة وأصبح يدرّس الفلسفة بكلية الأدب والعلوم الإنسانية بجامعة الجزائر إلى غاية 2001. وخلال هذه الفترة الّتي دامت 37 سنة، تخرّج على يديه مئات الطلبة، وأشرف على عشرات بحوث الدكتوراه، مساندًا الباحثين بالكتب والمقالات، ومستقبلاً إيّاهم بمنزله ومناقشًا أعمالهم، كما ترأس عشرات لجان الماجستير والدكتوراه.مسيرته النضالية أسّس الشيخ بوعمران في الأربعينيات من القرن الماضي فرع البيض للكشافة الإسلامية، وعندما استقرّ بالعاصمة سنة 1950 أصبح قائدًا وطنيًا للكشافة مكلّفًا بالجوالة. ثمّ أصبح محرّر مجلة الكشافة وكان يكتب افتتاحياتها.وفور اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، أمر تنظيم الثورة الكشافة الإسلامية بحلّ نفسها وتسليم تجهيزاتها ومالها للثورة، إلى جانب باقي التنظيمات الشبانية الرياضية والثقافية، فاستجابت كلّها وتوقف نشاط الكشافة إلى غاية الاستقلال.وبعد الاستقلال، انتخب الشيخ بوعمران أمينًا عامًا لفيدرالية عمال التربية والثقافة (1968-1975)، ثمّ رئيسًا لاتحاد الكتاب الجزائريين (1995-1996)، ثمّ رئيسًا للمجلس العلمي لمؤسسة الأمير عبد القادر (1996-1999) ونائبًا لرئيسها (1999-2002).تعريبه لمعهد الفلسفةيرجع الفضل لتعريب معهد الفلسفة سنة 1966 للشيخ بوعمران والدكتور عبد المجيد مزيان، وقد تصادمَا بشدّة مع المتفرنسين الّذين بذلوا كلّ ما في وسعهم لإبعاد اللغة العربية عن المعهد. وتصدَّى لهم الصديقان رغم أنّهما من المتقنين للغة الفرنسية بل من المتفنّنين فيها إضافة إلى إتقانهما اللغة العربية. أن إرادتهما وتمسّكهما بثوابت الأمّة وسعة ثقافتهما كانت الأقوى.مناصب المسؤوليةتقلّد الشّيخ بوعمران عدّة مناصب، حيث عُيّن مستشارًا وطنيًا للثقافة (1990-1991)، ثمّ وزيرًا للثقافة والاتصال سنة 1991 في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد وضمن حكومة سيد أحمد غزالي، ثمّ رئيسًا للمجلس الإسلامي الأعلى خلفًا للمرحوم عبد المجيد مزيان (منذ 2001 لغاية وفاته).إنتاجه الفكري والثقافيوللرّاحل الكثير من الأعمال الفكرية والثقافية، من بينها: مشكلة الحرية الإنسانية (1978) جائزة الأكاديمية العلمية (1981). وابن رشد (1978). والفكر الإسلامي نظرة شاملة مع لويس غاردي (1984). والموسوعة الفلسفية (1989). ومعجم مشاهير المغاربة (عمل جماعي 1995). والكشافة الإسلامية الجزائرية (عمل جماعي 1999) باللغتين. والأمير عبد القادر المقاوم والإنساني (2001). والجزائر المستعمرة عبر النصوص، مع الأستاذ جيجلي، تحت الطبع. وقضايا في التاريخ والثقافة، تحت الطبع. وغيرها.كما كان للشّيخ بوعمران رحمه الله مساهمات كثيرة في مجالات متخصّصة في الجزائر وخارجها، إلى جانب مشاركته في العديد من الملتقيات داخل الوطن وخارجه، كملتقيات الفكر الإسلامي وجمعيات اليونسكو وملتقيات المعلّمين والأدباء العرب والاتحاد الإفريقي وأوروبا وغيرها، كما ترأس بعثات إلى البلدان العربية للتعاقد مع أساتذة للجامعات الجزائرية، إضافة إلى العديد من البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزة بالجزائر. 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات