38serv
أمام نار الحطب المستعرة، جلست العشرينية سوزان أبو هربيد تتصبب عرقًا وهي تحاول الانتهاء من إعداد خبز الإفطار لعائلتها يوم ذاك.. تخرج رغيفًا وتدخل آخر، فأما الداخل فمصيره معلوم، وأما الخارج فمصيره محتوم تتسابق إلى قضمه أسنان أطفالٍ تحلّقوا حولها جياعًا، كانت تعطيهم برضا، ولسان حالها يقول بعد حمد الخالق على كل حال “يا رب توب علينا من هالعيشة يا رب”.سوزان واحدةٌ من سكان كرافانات مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة، حالها كحال كل جيرانها الذين لم يتعدّ عمر علاقتهم 3 أشهر، بعد أن قررت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” إخراجهم من مدارسها التي أَوَوْا إليها بعدما هدم الاحتلال بيوتهم في حرب الواحد وخمسين يومًا عام 2014؛ كلهم مثلها كانت عيونهم تحدق نحو المجهول؛ كلهم يتساءلون عن يوم الفرج، وكلهم يعدّون كرافاناتهم “سجونًا ملوّنة” فوق “أرضٍ ميتة”! وكلّهم أيضًا يعيشون رمضان اليوم وفي قلوبهم غصّة، وينظرون إلى الأمس حين كان للشهر الكريم في بيوتهم نكهة أخرى لا يذوقون منها هنا إلا “مرار الهجرة”.بين الصيام وحرارة الكرافانتقول سوزان بعد أن ثبتت عينها على النار برهةً “نار الحطب هذه أهون بكثير من نار الحسرة في قلوبنا، هي أهون حتى من حرارة الكرافان الشديدة التي نضطر إلى تحملها صيفًا”، مضيفةً “اجتمع عطش الصيام وحرارة الكرافان الشديدة هذا العام، لذلك نضطر للجلوس خارجه لتجنب رائحة البلاتين الناتجة عن تسخين الشمس للمعدن الذي صُنع منه.. فعليًّا نحن نعيش في الشارع، وننام في الكرافان ليلًا أملًا في الستر فقط”.تؤكد سوزان أن أجواء شهر رمضان هناك باهتةٌ للغاية، فلا أطفال فرحون بفوانيسه، ولا رجال قادرون على تزويد عائلاتهم باحتياجات الشهر من أغذية وأطعمة ومشروبات، ولا نساء تتوافر لديهنّ سبل الراحة أو الخصوصية لاستشعار عظمة الشهر وروعته مع عائلاتهنّ كما كان الأمر في رمضانات سابقة. شاركت العبرات حديث سوزان حين قالت “مع كل مرة يرفع فيها أذان المغرب، أتأمل جدران الكرافان وأبكي من كل قلبي حين أتذكر تفاصيل الشهر الفضيل في الأعوام التي سبقت الحرب، حين كنا نقضيه بأجمل أجوائه، نجهز البيت لاستقباله، ونملأ الثلاجة بما لذ وطاب، والأهم أن إعداد الإفطار والسحور لم يكن يأخذ منا كل هذا الوقت والتعب”، مستدركةً “اليوم لا ثلاجة ولا بيت ولا ملابس إلا صدقات ترسلها إلينا بعض الجهات بعد أن تجرّعنا مرارة الذل، ونبدأ مع إشراق شمس الصباح بتحضير طعام الإفطار لعدم توافر الأجهزة والإمكانات اللازمة للمطبخ”.هناك.. ذكرياتٌ أنهكت القلوب وفوانيس على قيد الحلمجارتها يسرى الكفارنة قاطعتها قائلة “حتى الطحين والاحتياجات الأساسية من الصعب الحصول عليها لغلاء أسعارها، ونتقاسمها بيننا إن توافرت، فنعد إفطارنا معًا كعائلةٍ واحدة”، موضحةً أن رجالهنّ يغيبون خلال وقت الظهيرة عن تجمع الكرافانات للبحث عن عمل، فيما اضطرت نساءٌ منهنّ لتربية الدواجن وبيعها، بينما عمد بعضهنّ إلى بيع بعض الحاجيات البسيطة للأطفال من حلوى وغيرها للحصول على بعض المال وسد احتياجات أسرهنّ الكبيرة.أطفال يطلبون وأهلٌ يعجزون!وتعود سوزان لتذكر موقفًا أبكاها كثيرًا حدث معها قبل عدة أيام، عندما جاءها طفلها الصغير حزينًا معرضًا عن الحديث معها ومع والده، كونهما لم يستطيعا جلب فانوس رمضان له هذا العام ككل مرة، فرفض الأطفال القاطنون بجوار التجمع اللعب معه بسبب ذلك، “لحظتها أرغمته على النوملا لشيء فقط لأنني لا أستطيع مساعدته”. تردف “عندما يزورني أهلي هنا يحملون إليّ بعض الفاكهة والأطعمة، فآخذ منها ما يكفيني، ويأخذ زوجي بقيتها لشقيقته التي يرفض أن يزورها خالي اليدين، نحاول أن نحيا حياة طبيعية، نصل الرحم، ونجتمع بعد الإفطار لتبادل الأحاديث، ونتناول السحور في هذه الساحة الرملية مع جيراننا، نخفف بعضًا من همومنا، ونساعد بعضنا البعض في كل شيء؛ التنظيف والطبخ والغسيل”.بعيدًا عن رائحة الدخان وحرّ المكان وضيقه، كانت ابنة أحد أصحاب الكرافانات أنسام ذات الأعوام الأربعة تلهو مع قريناتها، قالت ببراءة “كنت أنتظر رمضان حتى يجلب لي والدي فانوسًا، ولكنه لم يفعل، وكلما طلبت منه شيئًا يخبرني بأنه سيشتريه لي غدًا، وعندما يأتي الغد يخبرني بأنه نسي!”، لافتةً إلى أن أمها دائمًا تطلب منها ومن إخوتها أن لا يثقلوا على والدهم بالطلبات، لأنه لا يملك ما يكفي لشراء طعام الأسرة أصلًا.يحاول الأطفال وسط تجمع كرافانات بيت حانون خلق أجواء رمضانية خاصة بهم، لعجز أهلهم عن القيام بذلك، فمنهم من يؤدي دور المسحراتي فينشد بعض ما يسمعه من مسحراتي التجمع، فيما يحاولون جمع بعض النقود من أهلهم لشراء المفرقعات والألعاب النارية التي تحمل أصواتها نكهة خاصة خلال الشهر الكريم، كما يضيف محمد “نتهافت خلال السحور للحديث عن ما بقي راسخًا في عقولنا من ذكريات الحرب والتشريد”. ويعبر محمد عن آماله البريئة في أن يصبح له بيت كبير يجمع عائلته فيستطيعوا النوم دون أي منغصات، لا حرارة ولا بعوض ولا رطوبة.عائلات تتناول الإفطار على شاطئ البحر هربًا من عَتمة الإنسانية وحر الصيففي مشهد غير مسبوق، يكتظ شاطئ البحر قُبيل أذان المغرب بالعائلات التي تقصده لتناول طعام الإفطار هربًا من العتمة والحرّ القائظ، وبحثًا عن الراحة النفسية التي يبعثها تلاطم أمواجه ونسيمه الذي يتسلل إلى الأعماق.انقطاع التيار الكهربائي قبيل ساعة الإفطار يضفي عبئًا آخر على الفلسطينيين، ما يجعل فكرة اللجوء للبحر أكثر فاعلية وأقل مشقة، فقطاع غزة يعاني أزمات تلو الأزمات حتى في عز أيام رمضان المبارك.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات