38serv
جمع بشير أثاث بيته في العوانة بجيجل في ثالث أيام العيد، ليضعه مؤقتا في مرأب قريبه، وينزل ضيفا ثقيلا على بيت والده، ومع نهاية موسم الاصطياف يعود من جديد إلى البيت الذي يستأجره بعد أن يمنحه صاحبه الضوء الأخضر.. سيناريو يتكرر منذ سنوات بالنسبة لبشير وغيره في ولاية جيجل وتيبازة وبجاية، وأغلب المدن الساحلية، فهؤلاء يستأجرون بيوتا قرب البحر، تصبح محظورة عليهم في الصيف.
يروي بشير بالكثير من الأسى معاناته مع “الرحلة” السنوية مع بداية أولى لفحات الحر، فإذا كان موسم الاصطياف عنوانا للراحة والاستمتاع بنسمات البحر الباردة، فهو ليس كذلك لصاحبنا والكثير من معارفه في ولاية جيجل، إذ يضطر لحزم أغراضه جميعها من الشقة التي يستأجرها بعقد شفوي مقابل 15 ألف دينار في بلدية العوانة.ويعترف محدثي أن صاحب الشقة لم يخدعه عندما اتفق معه على تأجيره الشقة، على أن يغادرها في فصل الصيف: “إلا أنني لم أكن أتوقّع أنني سأعاني الأمرّين في هذه الرحلة السنوية.. ظننت أن صاحب الشقة سيترك لي على الأقل غرفة أضع فيها الأثاث وأقفلها، على أن يؤجر صاحب البيت الغرفتين الباقيتين، لكنه رفض رفضا قاطعا؛ لأن المقابل المادي سينخفض، إذ أن الشقة ذات ثلاث غرف تؤجر بثمانية آلاف دينار لليلة في تلك المنطقة صيفا”.سألت محدثي لماذا لم يبحث عن شقة أخرى في منطقة بعيدة عن البحر، حتى يتجنب متاعب الانتقال في كل مرة، فأجاب أن أطفاله يدرسون غير بعيد عن هذه الشقة، وكذلك عمل زوجته، والبحث في مكان آخر يكلّ فه عناء وسائل النقل كل يوم.ولم يختلف الأمر بالنسبة لحسين، كما اختار أن نسميه، فالأخير يستأجر شقة في حي برج بليدة “أندرو” بمنطقة العوانة أيضا، فالحي الذي أصبح قبلة للمصطافين في السنوات الماضية لتواجده قرب البحر وحديقة الحيوانات لتازة، تتحوّل شققه إلى فندق مفتوح، ضحاياه من يستأجرون هذه الشقق طيلة أيام السنة. يقول حسين “ما إن يقترب الصيف حتى يبدأ العد التنازلي للمعاناة، فصاحب الشقة سيضحي بنا بالتأكيد؛ لأنه يجمع أضعافا مضاعفة من المال عند تأجير الشقة باليوم الواحد، وظروف عملي تدفعني إلى عدم البحث عن بيت آخر بعيدا عن البحر يجنبني هذه المعاناة”.وأضاف محدثي أنه اضطر هذا الصيف إلى استئجار مرآب ليمضي فيه الصيف، بعد أن رفض شقيقه وعائلة زوجته استقباله؛ لأنهم أجروا بيوتهم بدورهم”.رحلة الشتاء والصيف في تيبازةالسيناريو نفسه يتكرر في ولاية تيبازة، فالصيف بالنسبة للبعض ليس عطلة وبحرا ونزهات، بل هاجس حقيقي وبداية لمسلسل من المعاناة لا تكاد أطواره تنتهي في “رحلة الشتاء والصيف” بحثا عن مأوى بديل عن آخر، تركوه مجبرين للمصطافين بأمر من صاحبه.فمع نهاية شهر سبتمبر، تستقبل الوكالات العقارية بولاية تيبازة الساحلية كما كبيرا من المكالمات الهاتفية لأشخاص يبحثون عن كراء منزل، أمام مشكل السكن الذي يعاني منه أغلبية الجزائريين، غير أن غالبية هؤلاء يضطرون لإخلاء المساكن المستأجرة مع حلول موسم الاصطياف بسبب إلحاح أصحابها.يروي “هـ.م” 38 عاما أب لطفلين، وهو إطار بإحدى المؤسسات العمومية، بكثير من الحسرة تفاصيل المعاناة التي عاشها بداية السنة الجارية، بعد أن فرض عليه صاحب الشقة التي استأجرها منه مطلع السنة الماضية بأحد الأحياء السكنية القريبة من المركب السياحي مطاريس، رفع مقابل إيجار الشقة أو إخلاؤها.يقول المعني “بعد أن تم تحويلي إلى ولاية تيبازة للضرورة المهنية، وجدت نفسي مضطرا لاصطحاب عائلتي إلى مدينة تيبازة، واتفقت مع صاحب شقة على مبلغ إيجار شهري بـ22 ألف دج، وكان الشرط ألا يتم إجباري على إخلاء الشقة صيفا، لأني كنت مطلعا على قصص عائلات أجبرت على مغادرة بيوتها صيفا”.ويضيف المتحدث “عند موعد تجديد العقد، خيّرني صاحب الشقة بين دفع مبلغ إضافي أو إخلاء المنزل، وحجته أن أصحاب الشقق الفارغة حصلوا على مبالغ كبيرة صيفا خلافا له، وعليه وجب علي الخروج إذا لم أدفع أكثر”، ليختم كلامه “أخليت الشقة مرغما لأدخل مرحلة جديدة من مسلسل المعاناة”.“المال.. قبل الجر”بالحي الغربي لبلدية تيبازة، حيث تتجمع عمارات السكنات الاجتماعية والتساهمية وعمارات “عدل”، لتشكل أرضية خصبة لهذا النوع من التعاملات الخارجة عن رقابة القانون، كثرت القصص الحزينة خلال السنوات الأخيرة لعائلات بأكملها شردت من المنازل التي استأجرتها نتيجة طمع المأجرين، فمنهم من اضطر للتنقل إلى بلدية أخرى لإيجاد مسكن بديل، وآخرون غادروا إلى ولايات مجاورة داخلية. أما الشاب الأربعيني “م.ع” المنحدر من تيبازة الذي اضطر لمغادرة منزل الوالد، ليشن رحلة بحث عن بديل يأوي زوجته وأبناءه، ليدخل في معاناة لم تنته. يقول الشاب “بعد أن أجبرت على مغادرة منزل والدي، بحثت عن إيجار منزل يؤويني وأفراد عائلتي، فوقع الاتفاق مع أحد سكان المدينة الذي أجر لي شقته، لكن متاعبي بدأت مع اقتراب موسم الاصطياف، حيث عاملني صاحب الشقة معاملة المحضر القضائي لمن صدر ضده قرار بالطرد، فكان لابد أن أدخل في حلقة أخرى من مسلسل المعاناة، ليستقر بي المقام في منزل وضيع دفعت فيه بعد استئجاره الجهد والمال حتى أوفر فيه حدا أدنى من المتطلبات ليصبح صالحا للسكن”.عندما يتحرك الضمير الجماعيالأمر نفسه عاشته عائلة بحي 200 مسكن بتيبازة، الأسبوع الماضي، أنقذتها الهبة التضامنية للسكان، ويتعلق الأمر بعائلة دخل معيلها السجن ليتحمّل ابنه على نعومة أظافره مسؤولية الوالدة وأشقائه، فهذه العائلة التي وجدت نفسها متنقلة من منزل إلى آخر يؤويها، اضطرت إلى مغادرة المنزل الذي كانت تقطنه مع حلول موسم الاصطياف بأمر من صاحبه، ولحسن حظ الابن أن تمكن من العثور على مسكن للإيجار بحي 200 مسكن.غير أن المفاجأة الأليمة كانت عندما طلب صاحب الشقة رفع سعر الإيجار الشهري لـ3 ملايين سنتيم، ليضع العائلة أمام الأمر الواقع، موقف حرك جيران صاحب المنزل الذين تجندوا لموقف واحد وصوت واحد معلنين عن تضامنهم مع العائلة، ليجبروا الجار الباحث عن المال فتح باب الشقة للعائلة، محذرين إياه من اتخاذ قرار مخالف، لأن ذلك يعني منعه من إيجار المنزل مجددا.مدخول الصيف يعادل 5 مرات بقية الفصولوفي ولاية بجاية الساحلية، أصبح مشهدا مألوفا رؤية قوافل من العائلات وهي تجمع أمتعتها نحو وجهة غير معروفة، في انتظار حلول شهر سبتمبر لتعود إلى البيوت التي مكثوا فيها ثلاثة فصول من السنة.الظاهرة امتدت إلى كل المدن والقرى الشاطئية، حيث بمجرد أن يحل شهر جوان حتى تشاهد من يلقبون بـ “المعذبون في الأرض” ممن أسقطت أسماؤهم من قوائم السكن الاجتماعي واضطروا لتأجير شقق عند الخواص الذين تمادوا في “التفرعين” على هؤلاء.اقتربنا من عمر صاحب وكالة عقارية بمدينة تيشي، أكبر مدينة سياحية ببجاية، فقال إنه على اتفاق دائم مع مجموعة من الأشخاص الذين يؤجرون شققهم من سبتمبر إلى نهاية ماي، وخلال الفترة الصيفية يضعونها تحت تصرف الوكالة التي تقوم بدورها بتأجيرها للمصطافين.ويضيف عمر أن وضعية المستأجر لا تهم أصحاب الشقق، خاصة وأن المؤجر يشترط الدفع المسبق، وكشف لنا أنه إلى غاية 10 جويلية الماضي وضعت تحت تصرفه 23 شقة بالقرب من الشاطئ، وأوضح أن التأجير خاضع لقانون الحاجة والفائدة، حيث إذا لم يتقدم مستأجر لمدة أسبوع، توضع تحت تصرف من يريدها ليومين أو لبضع ساعات، المهم، حسب عمر، ألا تبقى فارغة.. ويبرر عمر لجوء ملاك الشقق إلى هذه الطريقة بقوله: إن مدخول فصل الصيف يعادل خمس مرات مدخول الفصول الثلاثة المتبقية.وبقرية باكارو، التقينا بعمي أحسن الذي يمارس مهنة النشاط العقاري منذ سنوات طويلة، حيث أكد أن الوضع هو نفسه في كل قرية شاطئية، إذ يُطرَد المستأجرون من أجل وضع الشقق تحت تصرف الوكالات العقارية رغبة في الربح الوفير، فحسبه، معدل ليلة واحدة بقرية شاطئية لا يقل عن مليون سنتيم في شقة عادية. أضاف محدثنا أن أكثر ما يزعجه تلك المشادات والمصادمات التي تجمعهم مع المستأجرين، الذين يرفضون إخلاء السكنات التي يقيمون فيها طيلة أيام السنة.في الجهة الأخرى، وقفنا على حالة عمي الطاهر 62 أحيل على التقاعد ويشتغل عند الخواص، يقول إنه طلب سكنا اجتماعيا منذ أن كان في عقده الرابع دون أن يتحصل عليه بسبب مشكل الميراث، اضطر لاستئجار شقة من غرفتين بحي باكارو استفاد منها شاب في 28 سنة في إطار السكن التساهمي، واتفق شفويا مع المؤجر على إخلائها من بداية جوان إلى بداية سبتمبر من كل سنة، وقال إنه هو وأولاده يحضّرون أنفسهم للرحيل نحو وجهات في الغالب لا يعرفونها، ليعيشوا بذلك الجحيم طوال فترة الموسم الصيفي.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات