38serv
يمشي وائل على الرمال الساخنة وسط ضجيج المصطافين وأقرانه الأطفال يسبحون ويلعبون أمام شاطئ البحر وصوت ضحكاتهم ممزوجة بصوت تلاطم الأمواج.. مشهد لا يعيره وائل، 14 سنة، اهتماما ولا يعني له شيئا، بل يركز بصره وسمعه عند طالبي “المحاجب” التي يبيعها ليس إلا.العمل حتى الغروبهو طفل قاصر نحيف لا يكاد يبرح مكانه ذهابا وإيابا بين تلك المظلات الشمسية المصطفة على أحد شواطئ زرالدة بغرب الجزائر العاصمة، بشرته البرونزية المحترقة وثيابه الرثة الشهباء أبرز جسمه النحيل، لكن عزيمته في كسب المال كانت أقوى.يقول الطفل اليافع ابن مدينة أسطاوالي إن يومه الشاق ينطلق منذ الساعات الأولى من النهار “أخرج في الساعة السابعة صباحا لاقتناء جميع المستلزمات التي تحتاجها والدتي في تحضير “المحاجب”، وما إن تنتهي منها حتى أحملها وأخرج بها إلى شواطئ زرالدة”. وهكذا يظل يسير، ينادي ويقبض النقود.. حتى آخر حبة “محاجب”، فيعود للمنزل من جديد في الحافلة “وهناك أغتنم الفرصة لتناول الغداء ثم أحمل قفة ثانية وأستأنف العمل بعد الظهيرة”. وفي المساء، عندما تغرب الشمس وتلمع أشعتها الحمراء فوق سطح المياه، ويغادر المصطافون الشاطئ، يكون العمل وقتها قد ابتلع نهار وائل وهشام بائع “ليبينيي” ومحمد بائع المياه المعدنية.. وامتصت الرمال عضلاتهم الرشيقة، لتملأهم رغبة خاصة في دخول البيت حيث ينتظرهم العشاء والراحة.موسم الهجرة إلى الشماللكن لذة الراحة التي ينعم بها وائل وأقرانه في البيت وحنين الأم لم يذق طعمها الشاب معمر كوري، 17 سنة، منذ عيد الفطر الماضي، تاريخ مغادرته مقر سكناه بولاية الشلف التي تبعد بـ200 كيلومتر عن العاصمة.التقيناه غير بعيد عن الشاطئ الذي ينشط فيه وائل وأقرانه، وبالضبط في شاطئ الرمال الذهبية. كان شابا أشقر يحمل علبة بلاستيكية مملوءة بزيوت اسمرار البشرة وعلب سجائر، ويطلق العنان لصوته “فليكسي.. دخان.. برونزاج”. ورغم شعره الأصفر المحترق، إلا أن لون بشرته تغيَر بفعل تعرضها لأشعة الشمس، وصارت سمراء داكنة.كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف زوالا، عندما استوقفته للكشف عن ما يختلج صدره، وللوهلة الأولى قال بلهجة سكان المنطقة التي ينحدر منها: “لم أتناول غذائي لحد الساعة، الخدمة ميتة اليوم بسبب الرياح”، قبل أن يتابع “هذه هي الخبزة واش دير”. وفي رده على سؤال حول ظروف إقامته في العاصمة، رد الطالب في السنة الثانية ثانوي من دون تردد “استأجرنا محلا رفقة شقيقي وبعض من أبناء تلاسة (البلدية التي ينحدر منها في الشلف)، مجهزة بأفرشة وجهاز تلفزيون فقط”.العمل لشراء كبش العيدلم نكمل حديثنا مع معمر حتى ظهر صديقه عماد قادما من بعيد يجر خطاه وسط الرمال، وبرزت عوامات الأطفال الصغار المنتفخة أشكالا وألوانا فوق رأسه، حتى انضم إلينا.وبوجه عبوس وبملامح متعبة، استرسل عماد، الطالب الثانوي، يقول: “عندما أنتهي من عملي في الشاطئ، أتحول مباشرة للعمل في مقهى بمدينة اسطاوالي حتى الساعة منتصف الليل، وفي بعض الأحيان يتواصل العمل هناك حتى الواحدة صباحا”. ومن ثم يخلد محدثنا للنوم داخل المحل المستأجر كالجثة من شدة التعب، وهو حال صديقه معمر الذي يشتغل هو الآخر في مطعم حتى الساعة الحادية عشرة ليلا “أظل صائما حتى أنتهي من تنظيف المطعم لأتناول وجبة الغداء والعشاء معا”.يقول معمر وهو يهم باستئناف نشاط بيع الزيوت “عيد الأضحى على الأبواب وأنا مطالب بالاشتراك رفقة شقيقي لشراء كبش العيد، لا أنتظر من والدي المسن أن يشتريه”. المبيت في العراءرغم الظروف الصعبة التي يشتغل فيها هؤلاء الشباب الذين سبق الحديث معهم ومعاناتهم اليومية من أجل كسب قوتهم اليومي، إلا أن حالهم يبدو أحسن بكثير من آخرين لم يجدوا سقفا يحتمون به من رطوبة البحر، سوى خيم نصبوها على الرمال يقيمون فيها طيلة موسم الصيف، على حد قول معمر الذي كشف لنا عن آخرين يفترشون الكرتون في حديقة وسط مدينة اسطاوالي “ناهيك عن تسلط البلطجية وأصحاب العصي الغليظة عليهم، وسرقة ممتلكاتهم”، يضيف محدثنا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات