38serv
خلف جدران بيت فوضوي، منتصبا وسط فيلات فاخرة بشارع 10 الميناء الصغير الجميلة “لمادراك” بعين البنيان بالعاصمة، يعيش حمزة شبيه حليم في كنف مربيته “ع.ف”، يقضي يومياته حافظا للقرآن أو مستجما على شواطئ لامادراك، أو شاردا في لحظات عابرة نحو السماء باحثا عن لقب وهوية من امرأة قال إنها والدته وترفض تلقيبه .. فلا يفارق ذهنه “نداء الهوية”.. “أريد لقبي”.كلفنا العثور على عنوان إقامة حمزة مع مربيته أسبوعا من البحث والاسترشاد، إذ دلّنا شخص عارف بالقضية ثم وجهنا إليه مجموعة كهول، بدوا متقاعدين، كانوا جالسين في محيط المنزل، وما إن وجدناه حتى تسلل في داخلنا خوف وسر في تردد، على اعتبار أن المهمة تستدعي النبش في ماضي محزن، وكذا العودة إلى تاريخ مؤلم مغلف بالنسيان، ما من شأنه فتح جراح الطفل، لكن المهمة كانت في جوهرها مساعدته لإيجاد لقبه الحقيقي.وقفنا على بعد مرمى حجر أمام المنزل، في الثانية زوالا من السبت الماضي، الشمس ترسل لفحاتها الحارقة على بيت مغلف بصفائح حديدية، حوّلته إلى ما يشبه “فرن مخبزة” من فرط الحرارة .. أرسلنا أولى الخطوات تجاهه، منهمكين في انتقاء مفردات ملائمة للحديث إلى حمزة ومربيته.بخطوات متثاقلة مشينا صوب الباب، وبأياد مرتجفة طرقناه، ولم تمر سوى ثوان حتى فتحه البرعم حمزة مستقبلا .. حينذاك تعرّف علينا ثم دعانا للدخول، مرددا “تفضلوا ليس من اللائق الحديث في الخارج” .. وبالداخل، وجدنا مربيته السيدة فتيحة جالسة على كرسي في الباحة، تستظل تحت قصدير مثبّت بأسلاك صدئة.جلس حمزة بجوارها يفرك يداه، مبحرا بنظره وذهنه في أزرق السماء، فيما بدت علاقته مع مربيته أسطورية، تشبه إلى حد بعيد علاقة الابن بأمه .. تُمطره بأوامر فيستجيب مُطيعا، دون أن يخفي عنفوان المراهقة بإبداء رفض مؤقت. بمجرد أن أظهرنا نيتنا في الخوض في قصتها، استرسلت هي في الكلام فيما كان هو يرمقها بنظرات تنم عن رضاه وتأييده لما ستقول “ذات يوم من سنة 2003 خرجت صباحا لاصطحاب ولدا كان تحت رعايتي إلى المدرسة، عثرت على حمزة رضيعا في عمر شهرين تقريبا، موضوع داخل كيس وفي علبة كرتون، أرعبنا ذلك المشهد وتشتتت أفكارنا وظننا في البداية أنه رأس إنسان مذبوح أو سلاح، وسرعان ما اكتشفنا بأنه طفل حديث الولادة، بعدها هرولت إلى الشرطة لإطلاعهم على ما جرى ثم أصررت عندهم على الاحتفاظ به، وبعد يومين لاحظت امرأة تطوف حول المنزل جيئة وذهابا، وترمي بنظرات غريبة صوب منزلي، فساورني شك بأنها أم الرضيع وتحوم لتطمئن على مولودها إن كان في حضن آمن أو توفى، فخرجت لها وبادرتها بسؤال وجيه حول سبب تواجدها الدائم في محيط البيت، ثم أتبعته بسؤال أكثر وجاهة .. هل أنت والدة الرضيع الذي يبكي هنا بالداخل؟ .. اضطربت المرأة وانعقدت تقاسيم وجهها ثم أومأت برأسها معترفة، فجررتها إلى داخل البيت”.تابعت المربية وفي عيونها غضب “طلبت منها إرضاعه لكنها رفضت، في تلك الأثناء نهضت وعملت على إعداد وجبة الغداء فيما ظلت هي قابعة في مكانها .. تناولنا الأكل مع بعض ثم سألتها إن كانت ترغب في الاحتفاظ بالفطيم، فردت نافية، حينها اشترطت عليها الاعتراف به وتحرير وثائق له على ضوء لقبها وأنا سأتولى تنشئته ورعايته .. وافقت المرأة في البداية، غير أنها تراجعت ثم اختفت بالكامل عن الأنظار، وبعد عام ذهبت إلى بيت عائلتها في محاولة لإيجاد أهلها والاستعانة بهم لإقناعها بالاعتراف بنسب الطفل على الورق ومنحه لقبها حتى يتسنى له مواصلة الدراسة.خاضت محدثتنا في تفاصيل مثيرة “رفض أهل المرأة قطعا مسايرتي وقبول الطفل، بل اتهموني بأني أم الرضيع وأحاول التنصل من مسؤوليته بإلصاقه في ذمة ابنتهم”، وواصلت بلغة الغاضب “طليقها “ع.ط” ابن عمتها، قال لي بأن المرحومة أمه هي من ساعدتها على إنجاب هذا الولد في البيت، ووعدني بمساعدتي على تلقيب الطفل مهما كان، غير أنهما انفصلا فيما بعد”.وروت محدثتنا بأنه سبق لها وأن استضافها منشط حصة “كل شيء ممكن” التي كان يبثها التلفزيون الجزائري وينشطها الراحل رياض، عدة مرات، وطالبت خلالها المرأة بمنح اللقب للطفل، دون التصريح بأنها رمته وتخلت عنه، لتجنّب التشهير بها، بل أقدّم نفسي إلى الجمهور كما لو أنني مكلفة بتربيته فقط مثلما طلب مني القائمين على الحصة”. كان حمزة سارحا بخياله، لكن حين عرجنا على موضوع دراسته، استعاد تركيزه وتدخّل بالقول “أعاني من ضغوطات على مستوى المدرسة بسبب افتقاري للقب، إذ منعت ذات مرة من اجتياز امتحان شهادة التعليم الأساسي رغم معدلاتي التي بلغت 8.19، وحيازتي على شهادات شرفية في حفظ القرآن/ والآن أنا بفضل الله في السنة 3 متوسط”، هنا استخرج عدة شهادات شرفية كان قد نالها خلال مشواره التعليمي والتثقيفي.هنا سألنا محدثتنا حول ما إذا كانت المرأة تهتم بمصير الطفل الدراسي ونتائج التحليل الذي أجراه الدرك، فأجابت بالنفي القاطع .. غير مكترثة إطلاقا بوضعيته كما رفضت الاتصال بالدرك لاسترجاع تحاليل الحمض النووي.وحين بادرناها بسؤال آخر حول ما إذا طالبت هذه المرأة باستعادة حمزة لتتكفل به وترعاه بنفسها، قالت محدثتنا بلغة الواثق والساخر “أبدا.. فإن كانت تضمر هذه النية والمبادرة، كان عليها استرجاع أولا ولدا آخر يكبر حمزة بسنة، تخلت عنه، وترفض هو الآخر تلقيبه باسمها وترعاه مربية في باينام بعين البنيان، وعليه أنا أصر وألح على استرجاع التحاليل لمنحه لقبا”. وفي سؤال حول عائلة حيرش القاطنة بباتنة ومطلبها باسترجاع حمزة على اعتبار أنه حليم ابنهم المخطوف في 2009، وحمزة يشبهه لدرجة تطابق ملامحهما في أدق التفاصيل، قالت المربية إن هذه العائلة اتصلت بإحدى القنوات التلفزيونية الخاصة ووصلوا إلى مسكني وراقبوا تحركاتي في 2015، لكني أبلغتهم عن طريق الدرك بأن الطفل ليس ابنهم وأنا لم أسرقه، وحمزة لا يشبه ولدكم، والتحليل هو الفيصل وإذا كان الطفل مسروق، فإنني لا أظهر برفقته في التلفزيون، كما أنني أحوز على وثائق تؤكد أن الطفل كان في كنفي منذ 2003، كالدفتر الصحي مثلا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات