38serv
لا يعبأ آلاف الناس في الصيف لتحذيرات الحماية المدنية، ويختارون التمتع بمياه البحر في الأماكن الممنوعة، وهم يعلمون أن ذلك قد يعرّض حياتهم للخطر. فتجدهم يقصدون المواقع الصخرية في سواحل الولايات المطلة على البحر، وعددها أكبر بكثير من عدد الشواطئ الرملية المسموح فيها السباحة، والتي تتوفر على الحراسة من طرف غطاسي الحماية المدنية.
في وهران مثلا يعتبر الساحل الذي تشترك فيه بلديات ڤديل وسيدي بن يبقى وأرزيو، في الجهة الشرقية للولاية، وكذلك بلدية وهران، الوجهة المفضّلة لآلاف المصطافين الذين لا يردعهم عن التوجه إلى تلك المواقع سوى الهيجان الشديد للبحر، مثلما لا تغويهم رمال شواطئ الأندلسيات أو مداغ أو غيرها.ففي تلك السواحل الصخرية يتجاور المصطافون، على اختلاف أعمارهم، ويمارس كل واحد أو جماعة منهم “هواياتهم” المباحة والتي يعاقب عليها القانون في تعايش عادي، ولا يحتاجون إلى غطاسي الحماية المدنية رغم أن كثيرا منهم لا يجيدون السباحة، لأن الذين يقصدون تلك السواحل يعرفون أن كل الجالسين فوق الصخور سيقفزون في البحر إذا كان أحد في خطر، كما أنهم لا يضطرون إلى الإفراط في الإنفاق للتمتع بأنقى المياه وأجمل المناظر. ويعتبر ساحل منطقة كريستل الذي يمتد من الشاطئ الرملي “العين الحامية” نسبة للمنبع المائي الكبريتي الذي يتدفق فيه من الجبل والواقع في تراب بلدية بير الجير، والذي يسميه الناس “عين فرانين”، إلى غاية “رأس الإبرة” أو “كاب ليغوي” المتاخم لحدود بلدية أرزيو، من أكثر المناطق التي يقصدها هذا النوع من المصطافين. ويكاد الطريق الملتوي والمحفر المؤدي من دوار بلقايد إلى كريشتل يفقد القدرة على احتواء الأعداء الهائلة للسيارات التي تحمل المصطافين إلى وجهاتهم المختلفة شرقا، عدا أولئك الذين يقصدون مدينة ڤديل لينزلوا إلى كريشتل عبر طريق “الشومارة” وهناك يجدون وسائل النقل العمومية. أما الذين يتنقلون جماعات من وهران ولا يملكون سيارات، فيتدبرون أمورهم، سواء عن طريق “كلونديستان” يتفقون معه على موعد العودة أو الشاحنات الصينية الموزعة في إطار تشغيل الشباب التي تتحول إلى نقل المصطافين. وفيما يفضّل شبان أحياء معينة مثل البركي وسيدي البشير ميناء كريشتل الذي ما زال ورشة ترفض أشغالها أن تكتمل، يقصد آخرون شواطئ عين الدلفة، الدهاليل، لافرونساز أو سيدي موسى.الهروب من “مستعمري” الشواطئ والأرصفةوتتباين تبريرات الناس في اختيارهم لهذه المواقع “الخطيرة”. فمنهم من يقول إنه يهرب من “همجية” الشواطئ المحروسة التي تخلت الدولة عن احتكارها وتنازلت عنها “عمدا أو ضعفا” لفائدة “عصابات الأشرار”، التي ما زالت تفرض إتاوات على المصطافين والعائلات رغم كل ما قاله وزيرا الداخلية والسياحة، ورغم تواجد الشرطة والدرك فيها. ووصل بهم الحد هذا الصيف الهجوم على عائلة وإشباع وليها ضربا بالعصي والآلات الحادة أمام أبنائه وزوجته، لأنه اعتبر الثمن الذي فرضوا عليه تسديده مبالغ فيه، ما يؤكد أن هذه “العصابات” ما زالت تتحكم في الشواطئ، وحتى إذا أراد أحدهم أن يركن سيارته لبضع دقائق لدخول متجر، فإنه يمنع لأن “ملكية” الأرصفة تنتقل من الدولة إلى هؤلاء “المستعمرين”.وعلى خلاف ما كان ينتظره المصطافون “الذين ما زالوا يؤمنون بالدولة” بأن دخول الشواطئ سيكون مجانيا هذا الصيف، فإن العكس هو الذي حدث، بحيث رفع “مستعمرو” الأرصفة والرمال تسعيراتهم إلى الضعف. فالرصيف الذي كان التوقف فيه يكلّف 100 دينار ارتفع إلى 200، والشمسيات مع طاولة وأربعة كراسي التي كانت تؤجر بـ600 إلى 800 دج الصيف الماضي، صار سعر كرائها من 1200 إلى 1500 دج. وتستحوذ تلك العصابات على أحسن المواقع في الشواطئ الرملية، تاركة الأماكن القريبة من قنوات صرف المياه القذرة التي تتدفق في البحر للذين يصطحبون معهم كراسيهم وشمسياتهم.هذا “القانون” لا يطبق في المناطق الصخرية للساحل الوهراني، باستثناء “استعمار” أشخاص لهم علاقات “شراكة” مع أصدقائهم في المجالس البلدية، والذين ينصّبونهم حارسا، بناء على مداولات لا تختلف عن تلك التي يوقّعونها لتوزيع الإعانات المالية للجمعيات الثقافية والرياضية أو قفة رمضان وغيرها من أشكال توزيع “الريع الذي لم يتعبوا لجمعه”، ويمنحونهم حق استغلال مواقف السيارات في الحظائر التي هيأتها الدولة بأموال الشعب. في المناطق غير المحروسة للساحل الوهراني، مثل كريشتل “لا أحتاج إلى مناشف مرسوم عليها شعارات الأندية الأوروبية الكبيرة، أو الملابس الفاخرة للسباحة، مثل تلك التي يستعرضها المصطافون في الشواطئ ليشبّهوا الناس الذين يجاورونهم فوق الرمل” كما يقول بن حبيب معمري. ويضيف “أفضّل صخور كريشتل لأنني غير مضطر للإنفاق. فباستثناء حوالي 100 دينار من الوقود الذي تحتاجه سيارتي للوصول والعودة، أحضر في المنزل غذائي أنا وأولادي وقهوتي، وآخذ معي قارورتين من الماء المجمد وقارورة من المشروب الغازي، وأقضي يوما ممتعا دون عراك ولا تكسار الراس”. وهو مبرر آخر يدفع أرباب العائلات إلى اصطحاب أبنائهم الذكور والفتيات غير البالغات إلى السواحل الصخرية التي لا يحوم حولهم فيها التجار الموسميون ولا يصادفون في طريقهم “محلات المغريات الصيفية”.في حين تلجأ النسوة إلى “شاطئ الدردازة” الذي تعتقد كثير منهن أنه يدخل في “طقوس” زيارة ضريح سيدي موسى، لنيل كل بركاته. لا يمكن تسمية “الدردازة” شاطئا، لأنه مجرد “شعبة” بين صخور يصلها ماء البحر، لا يتجاوز طولها العشرة أمتار، تلجأ إليها النساء أيضا للابتعاد عن الاختلاط، حيث أنهن لا يتعرضن لأي إزعاج حتى ولو كنّ وحدهن مع أبنائهن وبناتهن، وكذلك لكونها قريبة من قرية كريشتل.تعايش سلمي بين المصلين و”الزطايلية”لا يحس المترددون على المناطق الصخرية بالخطر، سواء خطر الغرق أو غيرها من الأخطار، رغم علمهم المسبق أنهم سيجدون فيها جماعات من الشبان والكهول، الذين يمارسون هواياتهم التي يمنعها القانون. ويندهش الذين لا يعرفون “سوسيولوجية الصخور البحرية” للتعايش السلمي فيها. عندما تحين مواعيد الصلوات، يخرج من بين الناس شخص يؤذن للصلاة، ويبدأ الجمع في التشكل. يخرج الذين يكونون في الماء يسبحون، وينزل آخرون من الصخور إلى الماء ليتوضأوا، ويفترشون المناشف ويؤدون الصلاة جماعة، منهم من يرتدي ڤندورة وآخرون يصلون بألبسة السباحة. وفي تلك الأثناء يتوقف عشاق “باخوس” عن ممارسة هوايتهم احتراما لجيرانهم المصلين. وبعد رفع المناشف تتواصل معاقرة القنينات التي جلبها هذا الصنف من المصطافين معهم في أواني حافظة للبرودة لكي يتمتعوا بمظهرها “العرقان” ومحتواها المستخرج من القمح أو العنب.وفي مواقع أخرى، تحاول مجموعات أخرى التستر تحت الشمسيات أو الخيم الصغيرة، على اللفائف التي تصنعها في عين المكان من تبغ السجائر والمادة العابرة للحدود الغربية، التي يحجز منها الدرك والشرطة والديوانة آلاف الأطنان. وتسمع من حين إلى آخر قهقهات عالية وطويلة، لتتأكد حينها أن محتوى تلك اللفائف فعل مفعوله في رؤوس ونفسيات أولئك المصطافين.يتفاخر سكان مدينة وهران، الذين تقدموا في السن والذين ما زالوا مراهقين أو شبانا بكونهم تعلموا السباحة في “كوفا لاوا” و”لي جوني”، وهما ساحلان صخريان يقعان أسفل حي “ڤمبيطة”، الصديقية حاليا. ميزة هذين الموقعين، أنهما قريبان من المدينة. ولا يتطلبان نفقات نقل للوصول إليهما. لكنهما يفرضان على الذي يريد أن “يتبرد” بمياههما أن يكون على علم مسبق أن العودة إلى الدار أصعب من النزول إلى “كوفا”، حيث أن العودة التي تستغرق من 20 دقيقة فما فوق، تستدعي صعود جرف مرتفع يقضي على ما تبقى من طاقة لدى الشاب أو المراهق.هذا الموقع من المفروض أن يتحول بعد سنوات قليلة إلى “الواجهة الجديدة” للمنظر البحري لمدينة وهران، بفضل مشروع الطريق المؤدي من ميناء وهران إلى الطريق الاجتنابي الرابع، ومنه إلى الطريق السيار شرق غرب، ليخلّص المدينة من المتاعب التي تسببها آلاف الشاحنات التي تقصد الميناء يوميا لتعبئة السلع المستوردة. وإلى ذلك الحين مازال شبان مدينة وهران يترددون على “كوفا لاوا” و”لي جوني”. ومنهم من يخترق غابة كاناستيل مشيا على الأقدام ليصلوا إلى ما يعتبره “الوهارنة” أجمل شاطئ في الولاية “رأس روسو”. وهو شاطئ رملي صغير على شكل خليج يقع أسفل غابة كاناستيل تقابله شرقا قرية كريشتل، لا يوجد طريق يؤدي إليه. يسميه الناس أيضا “باطو كاسي” أي الباخرة المكسرة، بسبب وجود بقايا باخرة تجارية رمتها أمواج البحر ذات سنة في هذا الشاطئ، الذي يتخذ منه صيادون هواة مأوى لزوارقهم ويبلغه قاصدوه عبر منحدر. ويستغرق الانحدار حوالي 20 دقيقة على مسالك ملتوية، ويبرحون فيه إلى غاية تقريرهم العودة إلى الديار، حيث يفرض عليهم موقعه التزوّد بكل ما يحتاجون إليه، من ماء وأكل وغيرهما لأنه “مقطوع” على المدينة. وتستغرق رحلة العودة أكثر من وقت الانحدار بكثير. ويسلب هذا الشاطئ الجميل الشبان، لأنه على خلاف كل شواطئ الولاية يوفر الظل للمصطافين بعد الزوال كون الجبل الذي يعلوه يغطيه تماما من الجهة الغربية، في حين أن كل شواطئ وهران معرضة بعد الظهر لأشعة الشمس الحارقة. ليس هذا فقط، يعتبر الشبان الوهرانيون أن الذي لم يسبح في “كاب روسو” فاته شيء مهم في حياته، وهو ما يتحسر له الشاب “ج. بولمعاطي” الذي يحرمه وزنه من النزول إلى هذا الشاطئ وخاصة مغادرته وتحدي مسالك الجبل المؤدي إلى غابة كاناستيل، ويكتفي بحكايات أصدقائه حول الأوقات الممتعة التي قضوها في “الكاب” بعيدا عن “التمظهر”.الهروب إلى “رأس الإبرة”وإذا كانت مياه الساحل الصخري الشرقي لوهران غير مصابة بالتلوث، باستثناء شاطئ سيدي موسى الواقع في قلب قرية كريشتل، مع ما يتدفق فيه من مياه مستعملة، وما يرميه فيه المصطافون من قارورات وأكياس بلاستيكية وبقايا ما استهلكوه، فإنه يوجد في المنطقة موقع نجا تماما من “الآثار المدمرة” للإنسان. لكن الوصول إليه يقتضي جهدا كبيرا كونه أبعد نقطة في الساحل الشرقي لوهران، ويفرض الوصول إليه عبور مسالك جبلية وعرة. إنها “رأس الإبرة”، التي صارت وجهة عشرات الشبان من الجنسين هذه السنة والذين يقصدونها في رحلات منظمة، يستعينون فيها بمرشدين يعرفون المسلك المؤدي إليها عبر الجبل. وتستغرق الرحلة إلى غاية “منارة كاب ليغوي” حوالي ساعتين، لكن عندما يصل إليها قاصدوها ينسون تعب الرحلة من سحر المناظر وتنوعها ونظافة المياه التي لا تصلها الأكياس ولا القارورات البلاستيكية. ولا ترمي فيها الحواضر مياهها المستعملة. وقد انتشرت منذ فصل الربيع الماضي صور عديدة لرحلات الشبان إلى “رأس الإبرة”، مما جعل الطلبات على المشاركة فيها تتزايد. ويجب الإشارة أن “الدولة” ممثلة في مديريات السياحة والثقافة وغيرهما، لا تعتبران المشاركة في تنظيم هذا النوع من الرحلات من مهامها، تماما مثلما تتعامل مع الإرث الأثري والتاريخي الكبير لمنطقة وهران الذي يتهاوى تحت الإهمال “الرسمي”، ولا ينتظر الناس في وهران “الدولة” ويبحثون عن متعتهم، ويجدونها في مواقع جميلة كثيرة، فوق الصخور وفي “رأس الإبرة”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات