38serv
يبقى “الموس البوسعادي” ماركة بوسعادية مسجلة، مرتبطا بالموروث الثقافي والاجتماعي لأهل بوسعادة، والاحتفال به يعتبر جزءا من إحياء الذاكرة المحلية والتراث الشعبي المادي واللامادي الآيل للزوال. كان “الموس البوسعادي”، الأسبوع الماضي، “عريسا” بلا منازع، في احتفالية خاصة به أقيمت بسوق الصناعات التقليدية، ليعيد عبق الماضي إلى فضاء الحاضر، لكن على استحياء، بعد أن غاب عن هذه التظاهرة الكثير من خصوصيات المكان التي طبعت عملة المدينة وبطاقة هويتها.. فأصبح “الموس البوسعادي” حكرا على فئة من المجتمع، وحكرا على مناسبات معينة. وكما ضاع أو يكاد يضيع من مدينة بوسعادة الزربية والسرج والبرنوس، يواجه “الموس البوسعادي”، هو الآخر، خطر الفناء والزوال، ليصبح صورة لماض جميل على بطاقة بريدية.يرى بعض الحرفيين، المختصين في مجال الصناعات التقليدية، أن مستقبل “الموس البوسعادي” لا يبشر إطلاقا بالخير. ومرد ذلك، يقول هؤلاء، انعدام الإمكانات، وضعف الإقبال على هذا المنتوج الأصيل، علاوة على تكلفة الصنع المرتفعة. وهو ما جعل المختصين في صناعة “الموس” يكشفون عن “اختزال”، فمن أكثر من 40 شخصا قبل عشر سنوات، إلى شخصين على الأكثر في الوقت الحالي. ويمارس هذان الحرفيان الحرفة بصعوبة كبيرة.ويؤكد المختصون أن ما يصنع حاليا من “موس بوسعادي” يعتبر كنوعية من الدرجة الثالثة، حسب أحد المختصين، وهي لا تضاهي النوعية الممتازة، التي يساوي صنع “موس” واحد منها حوالي عشر وحدات من ذلك الموجود والمتداول في السوق من حيث الجودة والجهد والكلفة.ودعا بعض الحرفيين، من المعنيين بقطاع الصناعات التقليدية والحرف، إلى ضرورة إنقاذ رمز المدينة من الضياع والزوال، وتدعيم الحرفيين ومساعدتهم ماديا ومعنويا، وذلك من خلال إنشاء واستحداث ورشات حرفية، وتجهيزها بالعتاد المطلوب، لتصبح تلك الورشات خزانا لتكوين للشباب. أما الهدف الأسمى من كل ذلك فهو المحافظة على هذا الإرث، الذي يصور هوية المدينة، ويحمل اسمها.يتكون “الموس البوسعادي” الأصيل من غمد مصنوع من الجلد الحر، وقبضة يد مشكّلة من العاج، ومشدودة بسلك من فضة، وتزخرف مساحة السكين الحديدية بنقوش. هذه الصنعة فقدت بريقها في الوقت الحاضر، وأصبحت من التراث التقليدي النادر، ولكنه يبقى، مع كل ذلك، من أهم رموز المنطقة وسفيرها الأصيل، بلا منازع.ويتعدى رمز “الموس البوسعادي” فكرة كونه آلة يستعملها سكان المنطقة فيما سخر لأجله، إلى علامة مسجلة للمدينة. فهو من ضمن تراث المدينة المتوارث عبر الأجيال، فهو حاضر في الكثير من مناسبات أهل المنطقة، ولعل أبرزها عيد الأضحى والأعراس.. إلا أن عزوف الشباب عن حمل هذه الصنعة راجع إلى قلة المداخيل من احترافها، ما جعل العديد منهم يصرفون النظر عنها. ومع هذا، مازال “البوسعادي” يحتفظ بمكانة محترمة محليا وحتى على الصعيد الخارجي، حيث مازال يسوّق كأفضل هدية لمن أراد أن يأخذ تذكارا من المدينة.ويعتبر الحاج عمار أن صناعة “الموس البوسعادي” التي ورثها عن جده، كانت مصدر رزق عائلات كثيرة، بدأها منذ ستينيات القرن الماضي، لكن عند تراجع تسويق المنتوج، أصبح إنتاجه ضئيلا، وبدأ رواده في تناقص مستمر. والشأن ذاته بالنسبة بصنّاعه، فتحوّل “الموس البوسعادي” إلى سلعة غير مطلوبة، عكس ما كان عليه في العقود السابقة.يذكر أن مدينة بوسعادة، وما جاورها، تعتبر مهدا مهما لتاريخ صناعة الحلي والآلات الحربية. وقد تم العثور جنوبي المدينة على العديد من الآثار التي تدل على وجود سكان على ضفاف وادي بوسعادة منذ قرون. كما تم العثور على كمية كبيرة من الأدوات المصنوعة من معدن الليتيوم، واستخرجت المكاشط والصفيحات وقطع الصوان من طبقات المعادن المحاذية للوادي. هذه بعض كنوز مدينة أصيلة متأصّلة.“الموس البوسعادي”.. قصة من تاريخ بوسعادةتشير بعض المصادر الشفوية إلى أن تاريخ بداية صناعة “الموس البوسعادي” تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر، من طرف فرقة الحدّادة من عرش السوامع بولاية المسيلة. هؤلاء الحدّادة استوطنوا المنطقة في ذلك الوقت، وكان وقتها يسمى “الموس البوسعادي” بـ«الموس الحدّادي”. وبعدها أخذ تسمية المنطقة، واقترن اسمه بمدينة بوسعادة، لما كانت تتميز به من شهرة مهمة، والتوافد الكبير للسياح إليها من كل بقاع العالم. واحترفت عائلات كثيرة، هنا، صناعة “الموس البوسعادي”، منها عائلة: الدفي، قارة، سباع ولطرش. ولم يبق منهم غير عائلات تحسب على أصابع اليد الواحدة.يقول يوسف نسيب في كتابه “واحة بوسعادة “ الصادر في عام 1986: “إن أجيال الحدادة الأولى استقرت ببوسعادة غداة الاستعمار عام 1849. وتحصي بوسعادة قرابة 30 حرفيا يهتمون بالحلي ويجتمعون خاصة بحي الشرفة..”. وتشترك المراجع، على قلتها، حول تاريخ الصناعات التقليدية ببوسعادة عموما، في كونها كانت مصدرا ملهما للحرفيين في تنويع صناعاتهم، وإعطائها خصوصية المنطقة، كما كانت مصدر رزق أغلبية سكانها، وساعد في ذلك الثروات الطبيعية التي تزخر بها المنطقة. وهي بذالك تساهم في الحفاظ على هوية المدينة، وتشكل جزءا من تاريخها المادي والثقافي.الصناعات التقليدية ببوسعادة بحاجة إلى اهتمام ودعمعندما تدخل سوق الصناعات التقليدية، ببوسعادة، تستقبلك أصناف الصناعات التقليدية، من زرابٍ، وفخار، وفضيات وغيرها من المنتوجات التي نحتها حرفيون محليون، تعتبر مصدر رزقهم الوحيد.يقول السيد السعيد، حرفي، “ما يحدث من ركود في قطاع السياحة، جرّ وراءه ركودا في قطاع الصناعات التقليدية والحرف”. ودعا المتحدث ذاته إلى تحسين وضعية الحرفيين بالخصوص في المساعدة في تسويق المنتوج المحلي، الذي أصبح صعبا، وخصوصا فيما يتعلق بـ«البرنوس” و«الموس البوسعادي”. وهو ما يستوجب، حسب السعيد، تبني حلول عملية، والنهوض بها قصد مساعدة الحرفيين على البقاء ومزاولة المهنة والحفاظ على الموروث الثقافي والاجتماعي، كأحد رموز الهوية لمدينة بوسعادة. وأضاف: “يؤسفني أن نرى ما يعاني منه قطاع الصناعات التقليدية عموما، و”الموس البوسعادي” خصوصا”. وبدا محدثنا منزعجا من حال السوق الراكدة.مشيرا إلى تفضيل البعض التحول للتجارة وقطاعات أخرى، والتخلي عن “الحرفة”. من جهته، أوضح الحرفي صابر أن الصناعات التقليدية كانت فعلا مصدر رزق مهم وأساسي للبوسعاديين في وقت سابق، لكن تقلص السياح وتراجع التسويق تسبب في تأزم وضعية الحرفيين. وهو ما يدعو إلى الإسراع لإنقاذ الحرفيين وبعض الصناعات التقليدية، سيما صناعة “البرنوس” و«الڤندورة” و«الموس”، وكلها ترتبط بهذه المدينة. وتمنوا حلولا سريعة وتدخل مسؤولي القطاع قبل أن يهجر الحرفيون “فنهم” وإنتاجاهم بحثا عن مصدر رزق بديل.صانع النحاسيات والموس البوسعادي، دفي مبروك، لـ”الخبر”الحرفيون المتخصصون ضحايا التجار والمطلوب إدراج “البوسعادي” في معاهد التكوين تحدث السيد دفي مبروك، المختص في صنع النحاسيات والموس البوسعادي، بكثير من الحسرة والأسى، والغضب أيضا، عن مشاكل تواجه صناعة “الموس البوسعادي”، ولعل في مقدمتها “الظلم”، و«الحيف” الذي لحق الحرفيين نتيجة استغلالهم من طرف بعض التجار. فهؤلاء، يقول محدثنا، يشترون “البوسعادي”، بسعر 600 دينار للوحدة، على أن يعرضوه للبيع للسياح وزوار المدينة، وحتى ببعض المحلات خارج الولاية، بأثمان مضاعفة تزيد على 3000 دينار. إضافة إلى هذا، تحدث عمي مبروك عن عدم وجود دعم من طرف الحكومة. وتحدث المختص في صنع النحاسيات والموس البوسعادي بالمدينة، عن مشكلة غياب الترخيص لمزاولة نشاط صناعة “الموس البوسعادي”، أي أنه لا توجد تسمية ببطاقة الحرفي لنشاط “صناعة الموس البوسعادي”. وهو ما يعرّض الحرفيين أثناء تنقلاتهم محملين بمنتوجهم (السكين)، إلى مشاكل مع الأجهزة الأمنية.من جهة أخرى، أرجع السيد دفي مبروك تقلص عدد الحرفيين في هذا الاختصاص، إلى نقص وندرة، بل أحيانا كثيرة انعدام، بعض المواد الأولية كـ«قرن الكبش”، إلى جانب أن صناعة الموس تتطلب دقة وحضور ذهني للحرفي، وخصوصا أثناء التعامل مع مادة “الذكير” (المغناطيس)، وهو الحديد الصلب. ومشكلته أن حدّ شفرة الموس بالمطرقة والسندان، وهي طريقة صعبة دون يد ماهرة. وطالب متحدث “الخبر” بضرورة إدراج صناعة الموس البوسعادي ضمن برامج التكوين والتعليم المهنيين من أجل ضمان بقاء هذا الموروث المهم، بل وتطويره. وهو المطلب الذي طرح على عدة مسؤولين عن القطاع في كل مناسبة، لكن “لا حياة لمن تنادي”، مثلما يقال.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات