38serv

+ -

مع اقتراب عيد الأضحى، تنتعش بعض المهن في الأسواق التي ترتبط بالتحضير لهذه المناسبة. فهذا شاب بطال يحوّل مستودع البيت إلى إسطبل مؤقت لبيع الكباش، وآخر يجد في المناسبة فرصة لتحقيق “مصروف الجيب” ويشرع في نصب أكياس الفحم بالحي لاستمالة من يرغب في الشواء. ولأصحاب الشاحنات الصغيرة نصيبهم من هذه المناسبة، إذ يركّزون اهتمامهم على نقل الأضاحي، في حين يهتدي الكثير إلى عرض كل ما جادت به الأسواق من أنواع مستلزمات النحر وسلخ جديدة توفر العناء عن ربات البيت.

 ليس لـمحمد دخل قار.. راتب أو محل تجاري أو ميراث يغدق عليه الأموال، وإنما هو عامل مناسباتي موسمي يحوّل المناسبات الدينية والرياضية والنشاطات الثقافية والاحتفالات، إلى فرصة لتحصيل قوته ورزقه، وصار قادرا على التكيّف مع كل الأنشطة والتعامل مع كل الفئات على اختلاف الأعمار. فمع اقتراب عيد الأضحى المبارك وبروز أولى ملامحه، حدد محمد نشاطه وضبط عقرب بوصلته نحو كل ما له علاقة بذبح الكباش وسلخها وتنظيفها وطهيها، ثم استدار إلى تعيين مواصفات زبائنه في نشاطه وهم فئة أرباب العائلات، محددا احتياجاتهم و”طقوسهم” في كيفية الاحتفال بعيد الأضحى ومركّزا على المواد التي يرتفع عليها الطلب. سكاكين وسواطير من مختلف الأشكال للنحر والسلخ والتقطيع، أدوات للشحذ والتنظيف، حبال ومَشاوي وأقراط لتعليق الأضاحي، ونداءات الباعة تصدح في الأرجاء لاستمالة المارين بين ثنايا سوق حي باب الواد الشعبي بالعاصمة، وهو نشاط مؤقت يرافق مناسبة عيد الأضحى، يمارسه في الغالب شباب عاطل عن العمل، وواحد منهم نبيل الذي بدأ في العشرينيات من العمر، مرتديا ثيابا رياضية عصرية توحي بأنه لا يمتهن ذلك النشاط بشكل دائم. ينهمك الشاب في ترتيب سلعته بطريقة محكمة لاستقطاب الزبائن، مطلقا بين الحين والآخر نداءات ودعوات واصفة ما لديه من جديد .. اقتربنا منه لمعرفة طبيعة نشاطه وارتباطه بعيد الأضحى، وما إن بادرناه بالسؤال استرسل قائلا “أنا أعمل حسبما تشتهيه المناسبات والفصول ولكل نشاطه وسلعته وزبائنه المهم أحسن من الجلوس في الحي السكني والبقاء فريسة للفراغ، فممارسة نشاطات مؤقتة توفر لنا قليل من المال ولا تجعلنا ملتزمين بنظام عمل ساعي ثقيل ومحدد وفي بعض الأحيان يكون قاسيا كثيرا ولا يترك لنا حرية كبيرة في التنقل والسفر”.الشحذفي حي باب الوادي بالعاصمة، وبالتحديد في المكان المسمى “لافيس” استوقفنا العم لخضر، الذي كان واقفا تحت مظلة حمراء كبيرة وأمامه طاولة مثبُت عليها آلة الشحذ.. وكان منهمكا في شغله بهدوء وتركيز عال، وسط تطاير شظايا الحديد الناتجة عن احتكاك السكين مع أسطوانة الآلة، وحين اقتربنا منه وأفصحنا عن صفتنا، استرسل متحدثا بسخط حول موضوع السكن وعدم ترحيله، مشيرا بيده صوب سكن مهدد بالانهيار يعود إلى العهد الاستعماري ، وبعد دقائق من اللوم والغضب، تحول إلى الكلام عن طبيعة نشاطه بالقول “أستغل أيام عيد الأضحى بامتهان شحذ السكاكين والسواطير لأوفر قليلا من الأموال تساعدني على سد احتياجاتي، إلى جانب راتب لا يتجاوز 20 ألف دينار لا يصمد شهرا أمام غلاء المعيشة وكثرة المصاريف”.بيدين برزت عليهما عروق منتفخة، يداعب العم لخضر آلة الشحذ وخلف زجاج سميك لنظارات طبية، بدت عيونه صغيرة ونصف مغلقة من شدة الحر، كانتا نافذة على نفس معذبة وجسم منهك قضى عمرا في الكدح والتعب، ويعيش خريفه في التقاط ما تيسّر من مال بالاشتغال في نشاطات خفيفة غير مرهقة موازاة مع المناسبات الدينية والوطنية، أو عرض بعض المناديل الورقية بالقرب من البيت وبعض الأدوات البسيطة جدا.الأعلاف تغزو المدنتركنا العم لخضر وفي قلبه غصة وحسرة على الوطن، كما قال، واصلنا الطريق تجاه شارع تريولي في العاصمة، وفيها صادفنا كمال وهو شاب بدا يشارف على الأربعين، ويعرض في أسفل السلالم بين عمارات الحي  حزمات من العشب اليابس الخاص بالأغنام بسعر 100 دينار جزائري، وعكس القميص الذي يرتديه وشكله أنه لا يحترف هذا النشاط بشكل دائم وإنما مارسه بمناسبة عيد الأضحى لتوفير مصروف جيبه. غير بعيد عن كمال يجلس شاب في مقتبل العمر يسمى يونس، يشتغل خلال سائر الأيام في محل للأكل السريع والبيتزا، لكنه فضل هذه الأيام بيع كلأ الكباش بحكم أنه في عطلة والمحل الذي يشتغل فيه مغلق، وبالاقتراب منه وفتح نقاش حول النشاطات المرافقة لعيد الأضحى، تحدث قائلا “أشتغل كل شيء لتحقيق المال”.بيع الفحمأكياس سوداء مكدسة وبجانبها عشرات المشاوي الحديدية، هي تجارة تنتعش خلال هذه المناسبة وتنتشر في الأحياء بحكم  أن طقوس وتقاليد جل الجزائريين خلال الاحتفال بهذا اليوم تفرض إيقاد الفحم وجعله جمرا  لشوي أنواع اللحوم ثم الالتفاف حول الموائد لإقامة مآدب يجتمع فيها كل أفراد العائلة. على بعد يوم أو يومين من العيد يتوجّه الكثير من الشباب إلى ضواحي العاصمة وكبريات المدن لشراء قناطير من الفحم والحطب، ثم يوزّعونه على أكياس صغيرة تزن الواحدة كيلوغرام ويحددون له سعرا ينطلق من الثمن الذي اشتروه به، وفي الغالب لا يتجاوز 150 دينار جزائري للكيس. وتنتعش هذه التجارة، يقول إبراهيم، في عيد الأضحى وتبلغ ذروتها بسبب أن جل الجزائريين يفضّلون أكل الشواء، وبحكم أن طريقة الطهي بالفحم تمنح للحم مذاقا لذيذا.في كل حي اسطبلومن النشاطات الموازية التي تكون على موعد مع عيد الأضحى، بيع الأضاحي داخل المناطق العمرانية أو وسط الأحياء بإنشاء نقطة بيع، فالكثير من المواطنين يستغلون هذه المناسبة ويحولون مستودعاتهم أو فضاءات غير مستغلة بالحي، إلى إسطبلات مؤقتة بعدما يقومون بتسييجها وتهيئتها على نحو يسمح بعرض الخرفان إلى جانب مأكلها ومشربها. «الخبر” جالت عدة أحياء بالعاصمة وصادفت عدة أشخاص قاموا بإنشاء نقاط بيع، وأغلبهم لا يمارسون هذا النشاط بشكل دائم، وغير عارفين بجميع خباياه وقواعده، بل يكتفون بمعرفة أبجدياته فقط والقليل من قوانين لعبة البيع والشراء الموسمية والظرفية، وهو حال أحدهم الذي أنشأ إسطبلا مؤقتا بالقرب من حي سكوتو بالعاصمة، يعرض فيه كل أشكال الأغنام وبأسعار تبدأ من 40 ألف دينار إلى 80 ألف دينار، ويجني أموالا لا تتجاوز 10 ألف دينار في الشاة الواحدة.النقل والحراسة والتقطيع أيضاتمر عليك منذ الفينة والأخرى وأنت تسير في شوارع العاصمة، شاحنات صغيرة تحمل الأغنام ويتحول هذا المشهد إلى ديكور يومي مع اقتراب عيد الأضحى، بل يخصص الكثير من السائقين مركباتهم النفعية لهذه المهمة. التقينا أحد الشباب بحي بن عكنون في العاصمة، وسألناه عن طبيعة النشاط، فقال”أفضّل توجيه اهتمامي تجاه نشاط نقل الأضاحي هذه الأيام خاصة إلى الأحياء البعيدة، أما السعر فيتم تحديده حسب المسافة وحسب المكان”.إلحاح الأطفال وضغطهم على آبائهم لإحضار الأضاحي باكرا أي قبل أيام على عيد الأضحى، دفع العائلات التي تقطن ببيوت لا تتوفر على شرفات تتسع لوضع الأضحية، إلى تخصيص فضاء خاص لوضعها وبعدها تستنجد بحارس يتكفّل برعايتها وتوفير لها الأكل والشراب وكذا حراستها ليلا حتى لا تتعرض للسرقة.وبعد أداء سنّة سيدنا ابراهيم بنحر الأضاحي، تتشكل الطوابير في اليوم الثاني أمام القصابات والمذابح أملا في تقطيع الأضحية وتخزينها في الثلاجات، وهو نشاط يلازم هذه المناسبة ولا يمكن الاستغناء عنه والأمهات يمارسن ضغطا رهيبا على الأولاد أو الأزواج ليقوموا به، بينما تتولى أخريات المهمة بأنفسهن.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات