38serv
رغم تشديد السلطات الفرنسية على الصبغة العلمانية التي تجعل الدولة على حياد من المظاهر الدينية الفردية أو الجماعية، إلا أن المسلمين أضحوا في قلب معادلة صعبة تتجلى في تنامي مظاهر الإسلاموفوبيا وكراهية المسلمين، على خلفية إقحامهم في الخطاب السياسي أو جعلهم كبش فداء من جهة، أو تحولهم إلى أسرى لمخلفات وتراكمات تاريخية تمتد لعقود من الزمن. فمع كل واقعة تحدث في فرنسا، سواء أكانت عملية تفجيرية أو اغتيالا، يجد المسلمون أنفسهم أمام ضرورة التبرير، في وقت يتعامل مع المسلمين بمقاربات خاصة، مع إلحاق كل ما يتصل بشؤونهم لوزارة الداخلية، حيث يصبح التعامل مع الإسلام بمنهجية بوليسية تجعل من الديانة الثانية لا تخرج من دائرة الشك أو من دائرة التمييز مقارنة بالمنظومة القيمية الغربية.الإســلام يحشــر عنــــوة في النقـــاش السيــــاسيفوبيــــــا “الزحــــــف الأخضــــــر”لا يختلف المشهد السياسي في ظل الجمهورية الخامسة في فرنسا مع تعاقب الحكومات والرؤساء من اليمين إلى اليسار في مسألة علمانية المنظومة القائمة، التي تعد من الثوابت، إلا أن هذه العلمانية التي أريد لها أن تصبغ كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية في فرنسا مع إعلاء مبادئ جول فيري، عرفت عددا من المتغيرات التي اجتازت المجتمع الفرنسي المتنوع، خاصة بعد الثمانينيات، مع بروز الإسلام كأحد أهم الديانات، لكن أيضا بنمو الجالية المسلمة التي أضحت تشكل وزنا انتخابيا وعنصرا من عناصر النسيج الاجتماعي والبشري في فرنسا. دخل الإسلام والجالية المسلمة عنوة ساحة الجدل والتجاذبات السياسية، وغالبا ما تعاملت فرنسا مع الإسلام بمنهجية بوليسية تجعل من الديانة الثانية محل شكوك ومخاوف دائمة، بل سعت إلى تأطير ما اصطلحت عليه بـ”الإسلام الفرنسي”، من خلال وزارة الداخلية، وترك كل من شارل باسكوا وبيار جوكس نيكولا ساركوزي وجون لويس دوبري وكذا جون بيير شوفنمان ومانويل فالس بصماتهم في مشاريع متعددة تصب جلها في خانة تنظيم وتأطير الإسلام بجمعياته ومؤسساته في فرنسا.وأضحى الإسلام فضاء أكبر للنقاش، مع احتكاك فرنسا بما اصطلح عليه بالإسلام السياسي والإسلام الجهادي، أو الموجة الداخلية التي رأت فيها باريس بأنها مخالفة لمسارات الاندماج التي طالما دعت إليها الحكومات الفرنسية، وتجلت أساسا في أزمات وثورات الضواحي في باريس وعدد من المدن الكبرى.وزاد احتكاك فرنسا بالتنظيمات الإسلامية في الشرق الأوسط والمغرب الغربي بإعطاء أبعاد جديدة، خاصة بعد أولى العمليات التي مست عمق التراب الفرنسي في 1994 و1995، وتبنتها الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، ثم في 2012 وخاصة مع عملية الجريدة الساخرة “شارلي ايبدو” في جانفي 2015، وقبلها تداعيات الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، إلى غاية سلسلة عمليات باريس في نوفمبر 2015 وفي 14 جويلية 2016، وهي عمليات تبناها تنظيم “داعش”. هذه العمليات التي وضعت أكثر الجاليات المسلمة في ضيق، أضافت إلى متاعبهم ولكنها أيضا ضاعفت من التوظيف السياسي لكل ما يرمز إلى الإسلام والمسلمين في فرنسا، حيث أثيرت كافة المسائل المتصلة بالاندماج والاعتراف بكافة القيم العلمانية، ورفض أي إشارات مميزة، بما في ذلك تلك التي تتعلق بأي مظاهر خارجية. وعلى هذا الأساس، سنت الحكومات الفرنسية في 2004 قانونا خاصا بمنع الخمار في المدارس والمعاهد، ثم أتبعته في 2010 بقانون معروف تحت تسمية “البرقع”، واستمر السجال بخصوص الجاليات المستمرة ليتخذ طابعا سياسيا، لاسيما مع توظيف هذه الورقة من قبل النخب السياسية.ولم يقتصر ذلك على اليمين المتطرف مع جون ماري لوبان ثم مارين لوبان، بل تعداه للنخب اليمينية مع باسكوا ودوبري ونيكولا ساركوزي فمانويل فالس اليساري اليميني الذي سعى منذ سنوات إلى توسيع دائرة تطبيق قانون منع الخمار إلى الجامعات.وظلت فرنسا استثناء في مجال التمثيل النيابي والبرلماني مع غياب مسلمين، فيما تقدمت عليها العديد من البلدان منها بلجيكا التي بلغ عدد المسلمين ببرلمانها حدود 20 في المائة، وإن أشار المؤرخون الفرنسيون إلى أن رجل السياسة والطبيب الفرنسي فيليب غرينيه، الذي اعتبر كأول برلماني فرنسي مسلم في تاريخ البرلمان الفرنسي سنة 1894.وأبدى وزير الداخلية نيكولا ساركوزي في 2005 صرامة في تعامله مع ملف تنظيم المسلمين، وحقق ما عجز عن تحقيقه سابقوه، وهو إنشاء “المجلس الفرنسي للدين الإسلامي”، وسار وزراء الداخلية الفرنسيون إلى غاية الوزير الحالي بيرنارد كازنوف على نفس النهج، مع تباين في المقاربات الرامية إلى تحقيق الإدماج المأمول “إسلام فرنسا”، رغم أن مثل هذه الصيغ متناقضة مع مبادئ العلمانية التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية، والتي تشدد على حيادية الدولة حيال كل الأديان، بمعنى أن المنظومة العلمانية لا تحدد هوية الأديان ومضامينها، وتشدد على ضرورة احترام الأخيرة المبادئ العلمانية التي يحميها القانون.وتبرز خصوصية فرنسية في تناول المسألة الإسلامية، مع أهمية الجاليات المسلمة وازدياد ثقلها ووزنها، حيث يشير خبراء في التاريخ والسوسيولوجيا إلى ترسخ الخلفية العنصرية لدى عدد من الفرنسيين المنتمين إلى أطياف سياسية متعددة، من اليمين المتطرف فاليمين التقليدي، وإلى اليسار، مع تمركز في صفوف اليمينين المتطرف والتقليدي، وكلهم يتخذ العلمانية ذريعة لبروز مواقف هي أقرب للإسلاموفوبيا، إلى درجة أن الحديث عن العلمانية أصبح مبرراً ومطية لاستهداف الإسلام والمسلمين، خاصة مع توالي أحداث تلازم المسلمين، فضلا عما لوحظ خلال العقدين الماضيين بالخصوص، من تنامي ممارسة العبادات لدى مسلمي فرنسا، وتغير ملامح بعض الأحياء وواجهة بعض المحلات، منها محلات الأكل الحلال خصوصاً، الذي تزامن أيضا مع الجدل القائم حول وضع الضواحي ومشاكل الاندماج، وهي في المحصلة تهديد للهوية الفرنسية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات