المرحوم مختــار لعريبي.. "الجنتل مان" الذي تزوج معشوقة الجماهير

38serv

+ -

لا يمكنك، مهما حاولت أن تسافر في بحر شخصية وتاريخ المرحوم مختار لعريبي، أن تلمّ بكل خصائص وإنجازات وأسرار وطبائع ومواقف هذا الرجل، الذي يعد من أبرز شخصيات القرن الرياضية التي أنجبتها الجزائر. كيف لا وهو الذي وضع أول نواة لكرة القدم الجزائرية، حينما أسّس مع رفاقه، فريق جبهة التحرير الوطني. فكان لاعبا ومدربا ومجاهدا في سبيل نصرة القضية الجزائرية، تاركا وراءه المجد والشهرة والتألق داخل الملاعب الفرنسية، كما كان ملهم الكرة السطايفية وصانع أمجادها. لقد اختار عمي المختار الزواج بكرة القدم، فوهب حياته لها، وتبنى اللاعبين كأبناء له، وكان فعلا أبا روحيا لهم، فمنحهم كل شيء، ومات أعزب، تاركا وراءه سجلا حافلا بالألقاب والإنجازات والمواقف.. لكن، للأسف الشديد، فذاكرة المجتمع الرياضي الجزائري بصفة عامة، والسطايفي بصفة خاصة، أضحت قصيرة، وقصيرة جدا، وأصابها فيروس النسيان، ولم تعد تتذكر هذا المجاهد العظيم والرياضي الفذ، ولو بتنظيم دورة في كرة القدم تجمع كبار اللاعبين، يمكن أن تمسح بعض غبار التجاهل والنكران لشخصية تاريخية، أعطت للوطن دون مقابل.ولد المرحوم مختار لعريبي في شهر فيفري من سنة 1924 بشارع الجزائريين وحي المحطة “لانڤار”، من والدين بسيطين. كان والده يعمل سائقا لسيارة أجرة، “يناضل” كأبناء جلدته، من أجل توفير لقمة العيش للعائلة، وكله أمل على أن يكون لابنه شأن. فكان حريصا أن يلقنه العلوم، ورافقه من الابتدائي من مدرسة خبابة، والتي كانت ومازالت تعرف باسم “شكولة الحجر” إلى غاية توديعه مقاعد الدراسة من بوابة “الكولاج”. وقد كان الفتى مختار مولعا بكرة القدم، إلى درجة لفت فيها الانتباه وظهرت عليه ملامح اللاعبين الكبار. وهو ما جعله يلتحق مبكرا بعالم الكرة المستديرة، ومن أندية سطيف العريقة، كاتحاد سطيف، ودفاع “سانت آرنو” (مولودية العلمة حاليا)، وذلك في الأصناف الصغرى، وبعدما اشتد عوده التحق بمولودية الجزائر سنة 1943، وساهم في تتويج النادي العاصمي بلقب البطولة الوطنية.. ليشد الرحال بعد سنتين لنادي “سات” الفرنسي أين ساعدته الأجواء على البقاء لمدة سبع سنوات كاملة، ليتحول إلى نادي “كان” الذي لعب له لموسمين ومنه إلى “لانس”. وتمكن لعريبي من استقطاب اهتمام الفرنسيين الذين استدعوه للمنتخب الفرنسي.. غير أن المرحوم حنّ للوطن ففضل العودة، قبل أن يختار الوجهة العربية، وبالضبط إلى تونس، أين درّب ولعب لنادي حمام الأنف، ليعود من جديد سنة 1957 إلى فرنسا من بوابة نادي “أفينيون”.الوطن أولا وأخيراكان مختار لعريبي من الأوائل الذين لبوا نداء الوطن حينما انضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني سنة 1957، ولم يدخر أي جهد أو طاقة في سبيل خدمة الوطن ونصرة القضية الجزائرية العادلة. وحسب تصريحات ابن أخته ورفيقه الدائم، اليزيد قيرواني، فقد تم تكليفه سنة 1958 رفقة آخرين من طرف الجبهة، بتأسيس النواة الأولى لفريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم. وكان لعريبي وراء الاتصال بشيخ المدربين المرحوم عبد الحميد كرمالي، ورشيد مخلوفي، وعمار رواي وغيرهم.. وكان مرفوقا بفدائي مهمته تأمين سرية العملية.وقد ألح اليزيد قيرواني على القول “لقد أكد لي خالي مختار، رحمه الله، أن بعض اللاعبين الذين تم الاتصال بهم قد رفضوا الفكرة، غير أنه رفض ذكر أي اسم من هذه الأسماء. وللأسف الشديد فقد رحل دون أن يكشف عن الكثير من الأسرار التي تتعلق على وجه التحديد بظروف تأسيس فريق جبهة التحرير الوطني”. وبعد الاتصالات، غادر مختار رفقة بعض اللاعبين الذين لبوا نداء الوطن نحو سويسرا، وبعد عبورهم الحدود بنحو خمس دقائق فقط انكشف الأمر، وحدث زلزال حقيقي في فرنسا، وسال الكثير من حبر الصحافة الفرنسية والعالمية حينها. وقد اكتمل بعدها شمْل الفريق بتونس.. ومنها بدأت مسيرة قادها لعريبي لاعبا ومدربا، رافقت سنوات الكفاح المسلح، وساهمت بشكل كبير في صناعة رأي عام مؤيد ومناصر للثورة الجزائرية. وقد كانت الفترة التي لعب فيها لعريبي وزملاؤه بفريق جبهة التحرير الوطني فرصة لهم للالتقاء بزعماء وشخصيات عالمية في صورة ماو تسي تونغ، هوشي منه، الجينرال جياب، الملك الحسين، الرئيس بورڤيبة، والعديد من ملوك ورؤساء العالم.قصة عشق مع الوفاق انتهت بكأس إفريقية للأندية البطلةيقول اليزيد قيرواني “منذ أن أدرك “مختار “ الوجود من حوله، عرف بحبه الشديد لمدينة سطيف. فكان يعشقها بعمق، وكان يجد لذة وهو يتجه من بيته بحي بومرشي إلى مقهى” البوتينيار” المفضلة لديه. كان دائما يتمنى أن يرى سطيف عروسة المدائن وفي أبهى حلة. ليجد نفسه فوق هذا متيّما بحب الوفاق المحلي، الذي دربه على فترات متقطعة ما بين سنة 1962 إلى 1989. وكانت المدة التي قضاها على رأس العارضة الفنية للوفاق، هي عشر سنوات، متبادلا المهمة بينه وبين صديقه عبد الحميد كرمالي. وكان أول حصاد للمرحوم مع الوفاق تتـويجه بأول كأس للجمهورية الجزائرية، في أول نهائي لها في التاريخ سنة 1962/1963. وهو الموسم الذي لم يذق فيه الوفاق مع لعريبي طعم الهزيمة. وأعاد الكرّة بعدها بموسم واحد. لتبدأ معه قصة غرام أخرى جمعت الوفاق بالكؤوس، حيث تحصل مع الوفاق على ثلاث كؤوس للجمهورية وكأس إفريقيا للأندية البطلة، فضلا عن بطولتين وطنيتين”.عشق الوفاق.. ولأجله رفض إكمال نصف دينهوكانت الكأس الإفريقية آخر هدية يقدمها مختار لفريقه الوفاق وعشاقه بسطيف. ولم يكن المرحوم يهتم بشيء آخر غير فريقه المحبوب، الوفاق، رافضا بذلك إكمال نصف دينه، خوفا، ربما، بأن تلهيه الواجبات الزوجية عن تواصل ذلك العشق والحب المتيم بالوفاق، رغم أن مختار كانت تتوفر فيه كل الشروط التي تجعل من جميلات سطيف في ذلك الوقت، يتعلقن به ويتخذنه فارسا لأحلامهن، غير أن الرجل فقد السيطرة على قلبه الذي استحوذ عليه فريق وفاق سطيف، فأصبح هو “دينه ودنياه”.ويذكر ابن أخته، الشيخ اليزيد قيرواني، الذي كان له شرف ترؤس فريق وفاق سطيف في مرحلة التسعينيات، أن مختار كان يصد كل أبواب تفتح له من أجل إكمال نصف دينه. ولعل تفكيره الدائم في الوالدين والعمل على راحتهما جعله يبعد فكرة الزواج رغم إلحاحهما الشديد والمتكرر في هذا الموضوع، لكن من دون جدوى.ويقول الحاج نور الدين، مدرب المنتخب الوطني الجامعي سابقا، وأحد مساعدي مختار لعريبي على رأس العارضة الفنية للوفاق وكذا منتخب الأواسط، وقبل كل شيء، أحد أصدقاء المرحوم المقربين، الذي كان يتقاسم معه إحدى طاولات مقهى “البوتينيار”: “لقد حاولت مرارا وتكرار فتح موضوع الزواج مع مختار لكن النقاش كان دائما ينتهي لصالحه، ويغلق علي كل المنافذ”.الرجل الصارم والمنضبط ولا يعترف بالأسماء “الكبيرة”عرف مختار لعريبي بصرامته وانضباطه. وقد روي الكثير من المواقف الدالة على ذلك، منها ما رواه لـ«الخبر” اللاعب الدولي السابق وصانع ألعاب الوفاق في مرحلة السبعينيات، عبد الحميد صالحي، حيث قال “كان لعريبي مدربا صارما ومنضبطا. وكانت له طريقة خاصة في كشف قائمة الرسميين، حيث كان يوزع القمصان حسب المنصب الذي يختاره لك هو. وحدث ذات مرة حينما كان المرحوم لونيس ماتام مدلل الوفاق، وكان الفريق متوجها إلى وهران للعب ضد المولودية المحلية، وكان ماتام لا يتوانى عن ترديد جملة (امنحوني القميص رقم 10 وسأمنحكم الفوز بوهران) وقد سمع مختار هذا الكلام، ليفاجئ الجميع عند الوصول إلى غرف تغيير الملابس باستدعائه للاعب بن عودة، الذي رافق الفريق كسائق إلى وهران، وكان خارج قائمة المستدعين للمباراة، ومنحه القميص رقم 10، ثم منح القميص رقم 11 لماتام وقال له: “العب بالقميص رقم 11 ولا تمنحنا الفوز”.من جهته، يروي مدلل الوفاق في مرحلة التسعينيات مليك زرڤان عن المرحوم لعريبي بالقول “لقد تعاملت مع الكثير من المدربين طيلة مسيرتي الرياضية سواء مع الوفاق أو المنتخب الوطني، ولم أر في حياتي مدربا منضبطا وصارما مثل مختار لعريبي. كما أنه يتعامل مع اللاعب بطريقة احترافية خالصة. وأذكر أننا كنا في المنتخب الوطني للأواسط، وكنت قائدا للمنتخب، وكنا حينها في معسكر تحضيري بفرنسا، وطلب منا المدرب مختار عدم الخروج من الفندق، غير أنني خالفت التعليمات وخرجت أمام الباب الخارجي للفندق فقط، حينها رآني هو من النافذة، ومن دون أن يقول لي شيئا، وجدت نفسي خارج قائمة المستدعين للتربص الثاني. رغم أنني التقيته بمجرد عودتنا من فرنسا وكان يوم العيد، وتحدثت معه بصفة عادية، ولم يبد لي أي تصرف يوحي بأنه غاضب مني، قبل أن أتفاجأ بعدم تواجدي ضمن القائمة المعنية بالتربص الثاني. والغريب في الأمر أن مختار بقي يعتمد علي في فريق الوفاق وكنت ألعب بصفة منتظمة. وهو ما يدل على احترافية الرجل الذي جعل العقوبة المسلطة علي بالمنتخب الوطني لا تؤثر على مسيرتي مع الوفاق”.ويواصل مليك سرد ذكرياته مع مختار لعريبي حيث أردف يقول “ذات مرة كنا في تربص بالعاصمة مع الوفاق، واضطر المدرب لعريبي أن يعود إلى سطيف بسبب مرض والدته، وقد واصلنا نحن التحضيرات مع المدرب المساعد بصفة عادية، وقد حاولت خلال التربص مغادرة الفندق لحضور عرس عائلي بالعاصمة، وكان المدرب المساعد قد أخبر مختار بهذه الحادثة، فقال له “عليك بطرده من التربص”، وقد رفضت المغادرة، ولكن حين عودتنا إلى سطيف، قام مختار بطردي نهائيا من الفريق.. وقد حاول كل من له علاقة بكرة القدم وبمختار لعريبي، أن يثنوه عن قراره لكن من دون جدوى. وأذكر حينها أن كل سطيف ترجّت مختار لعريبي لإعادتي لكن دون جدوى. ولما استيأس الجميع، قال لهم اطلبوا من ذلك الولد العودة للفريق، وكنت قد قضيت حوالي ثلاثة أشهر بعيدا عن الفريق”.يقدّس الروح الرياضية ويمقت التلاعب بالمبارياتيجمع كل من التقيناهم أن مختار لعريبي كان من الشخصيات الرياضية التي يشهد لها الجميع بالنزاهة وبالروح الرياضية العالية. فكان يعنّف اللاعب الذي يتصرف بخشونة مع الخصم، ويعاتب الحكم الذي يحسب أخطاء وحتى أهدافا لفريقه ولا يستحقها. كما كان يمقت بشدة التلاعب بالمباريات. ومما كشف عنه لنا صديقه الحاج نور الدين أن فريقا في بداية الثمانينيات، اتصل به من أجل ترتيب مباراة تساهم في إنقاذ هذا الفريق من السقوط، غير أن نزاهة هذا المدرب كانت فوق كل اعتبار، ولعب اللقاء وفاز به بثلاثية نظيفة. وهو ما جعله محل احترام أكبر المدربين المحليين آنذاك.ويذكر المصور الرياضي ولاعب اتحاد سطيف سابقا، جمال كراش، مباراة فريق اتحاد سطيف ضد شبيبة القبائل بفريقها الكبير سنة 1986، في إطار ثمن نهائي كأس الجمهورية، بملعب الوحدة المغاربية ببجاية، وكان فريق الاتحاد ينشط بالقسم الثاني، فقال جمال كراش “كنت أشتغل كمصور رياضي آنذاك، وقد دخلت الملعب خلف المدرب لعريبي، وحينما رآه مدرب الشبيبة محي الدين خالف، أسرع نحوه من أجل أن يسلّم عليه، وتحدث معه كثيرا، وكان لعريبي يقدم النصائح لخالف، وقد قمت حينها بأخذ صورة لهما، وهي الصورة التي أعجبت كثيرا المرحوم مختار وأخذ نسخة منها للتذكار”.لعريبي العاشق للفن السابع والهاوي لفنون الطبخاعتبر الاسم الكبير رشيد مخلوفي المرحوم مختار لعريبي نموذجا حقيقيا للحياة، وفي شتى المجالات، فكان لاعبا ماهرا، وشابا أنيقا، وراقصا مبدعا، وصاحب شخصية قوية جدا. واعتبر رشيد مخلوفي وفاته بمثابة الخسارة الكبيرة لكرة القدم الجزائرية، خاصة وأنها خلّفت فراغا كبيرا، وخسرت الجزائر من جهة أخرى لعريبي المسيّر المحنك، فقد أشرف على تسيير “فندق فرنسا” وبعدها فندق “الهضاب” ثم مديرا للسينما بسطيف. مع العلم أنه كان يهوى كثيرا السينما، وكان يتنقل إلى مدينة العلمة رفقة الشيخ كرمالي من أجل مشاهدة الأفلام بقاعتي “الأطلس” و«فوق” كما كان طباخا ماهرا، فكان في العديد من المرات يريح والدته من الطهي ويحل محلها.لعريبي الأنيق يراقص الشحرورة صباحشيخ المدربين العرب، عبد الحميد كرمالي، كانت له مواقف كثيرة مع المرحوم، خاصة وأنه كان وراء انتقاله للعب بفرنسا.. ومما حدثنا به كرمالي، في وقت سابق، واقعة فريدة، وقعت على ضفاف نيل القاهرة، حيث قصد كرمالي مطعما عائما رفقة لعريبي وقاما بحجز طاولة لهما، وهما في قمة نشوتهما هناك، قصدت المكان الفنانة اللبنانية المشهورة صباح، واتخذت من طاولة أخرى مكانا لها، وهنا أبدى لعريبي رغبة في مراقصة الشحرورة، وترجاه كرمالي ألا يفعل خوفا من فضيحة تحدث أمام الملأ، غير أن مختار المعروف بثقته بنفسه وإصراره، والمشهود له بأناقته طيلة حياته، وعلى طريقة كبار الشخصيات في بهاء تام، اتجه نحو الفنانة صباح بكل وقار، وحياها بكل أدب، وطلب منها أن تؤدي معه رقصة، فوافقت صباح، ليتوقف أثناء ذلك الجميع عن الرقص ويتحوّلوا لمتفرجين على مختار وصباح، وأدى الثنائي رقصة جعلت الجميع يصفق لهما بحرارة. وبعدها رافق لعريبي الشحرورة إلى مكانها من جديد وعاد إلى الطاولة وأنا كلي فخر واعتزاز” يقول كرمالي.مواقف طريفة وأخرى مبكيةروى لـ«الخبر” الرئيس السابق للوفاق واللاعب الدولي، عبد الحكيم سرار، حكاية طريفة جمعته بالفقيد لعريبي، قائلا “كنت ليلة لقاء مهم جمع في بداية الثمانينيات (الوفاق باتحاد الحراش)، أتجول بين أروقة مكان الإقامة لألقي إطلالات على اللاعبين في غرفهم، وكان الوقت متأخرا، ولسوء حظي رآني مختار فناداني لأقدم إليه، غير أنني تجاهلته وحاولت الفرار نحو غرفتي أين قمت بإغلاق الباب، وعندما قام مختار بطرق الباب لم أشأ أن أفتح له، حينها طلب من إدارة الفندق فتح الباب، ولما رأيت بأن الأمور قد تعقدت وبلغت درجة خطيرة، وضعت سجادة الصلاة أمامي، وما إن دخل مختار ومن معه، دخلت بدوري في الصلاة، حينها وقف مختار ينتظر نهاية الصلاة، غير أنني أقسمت ألا أنهيها حتى يخرج من الغرفة.. وأمام إصراري على موقفي خرج مختار، وهو يسأل مرافقيه عن نوع الصلاة التي كنت أؤديها، خاصة وأنه كان لا يعرف كثيرا في أمور الدين، وكنت أظن أن الأمور قد انتهت عند هذا الحد، خاصة وأن مختار لم يتكلم معي خلال مأدبة فطور الصبح، ولا خلال الغداء، غير أنه وقف عند باب غرف تغيير الملابس، وكان اللاعبون يدخلون الواحد تلو الآخر أمامه، ولما وصلت أنا أشار إلي بإصبعه أن ارجع من حيث أتيت، ولم يشركني في ذلك اللقاء رغم أهميته البالغة”.“لاكوب دالجيري تاع تونس”!ويروي المصور الرياضي، جمال كراش، لقطة طريفة حدثت لمختار حينما كان الوفاق يحضّر بتونس، وقد صادف أن أقيمت مباراة نهائية لكأس تونس، وكان مختار لعريبي ينتظر مشاهدتها أمام الشاشة بالفندق، غير أن التعب نال منه، وأوصى حارس العتاد “البحري” بإيقاظه بمجرد انطلاق اللقاء، غير أن “البحري” نسي الأمر ولم يتذكر إلا بعد أن بلغت المباراة الدقيقة العشرين، فراح يهرول نحو مكان نوم لعريبي محاولا إيقاظه، ولما أفاق قال له “لقد انطلق اللقاء الخاص بكأس الجزائر نتاع تونس، ونسيت أن أوقظك” وهو ما جعل من لعريبي ينفجر ضاحكا ويردد بالفرنسية “كأس الجزائر التونسية”.التدرب يوم العيد.. ألا يحق للوالد أن “يعيّد” مع أبنائه؟موقف آخر جعل لعريبي يبكي كثيرا، وكان مركز الراحة بكريتاي بفرنسا مسرحا له، حيث أقامت إدارة المركز حفلا بسيطا لنزلاء المركز ومن بينهم لعريبي، ومن برنامجه تنظيم سباق يشارك فيه المرضى، وتوجت فتاة جزائرية من ولاية سعيدة بجائزة السباق، وكانت نزيلة هي الأخرى بالمركز، وحينما تسلمت الكأس الرمزية، تقدمت ببطء نحو لعريبي وحيته، وأهدت له الكأس قائلة: “أنت هو صاحب الكؤوس ولست أنا”. هذه اللفتة وتلك الكلمات أثرتا كثيرا في نفسية لعريبي الذي لم يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء، خاصة وأنه كان في نهاية مشواره الطويل.وهناك قصة أخرى يرويها المدرب المرحوم كرمالي، حيث قال “نظم اللاعبون إضرابا ورفضوا التدرب فجر العيد، نزولا عند رغبة لعريبي، وخلال صبيحة العيد، توجهت إلى لعريبي من أجل أن أطلب منه العفو عن اللاعبين خاصة وأن المناسبة هي العيد، فقال لي: لقد بعثوا بك حتى تتوسط لهم، هل تعلم بأن العيد لا طعم له عندي إن لم أر فيه أبنائي؟ وكان يقصد اللاعبين، وهو أمر أثر في كثيرا”.قصة المرض وبداية النهاية«الوفاق سيقتلني”، عبارة رددها المرحوم لعريبي في الكثير من المرات، خاصة وأن الكثير ممن عايشوه، أجمعوا على أنه كان يجهد نفسه كثيرا، في أداء مهامه كمدرب للوفاق وساعات الركض فجر كل يوم شاهد على ذلك، والتي كان لها الفضل في ميلاد أسطورة “النفس الثاني” للوفاق، وكان له الفضل في تحقيق الكثير من انتصارات الوفاق في الأشواط الثانية، بسبب التحضير البدني الكبير للفريق.هذا الانشغال الدائم بالنسر الأسود جعله ينسى مرضه، الذي بدأه منذ سنة 1986، وهي السنة التي شهدت حدوث عدة مشاكل مع إدارة النادي، واضطر إلى مغادرته قبل أن يعود إليه في السنة الموالية، نزولا عند رغبة الجماهير.. وكان الوفاق قد عرف هو الآخر مشاكل كبيرة ومؤامرات كثيرة، جعلته ينزل للقسم الثاني. ما زاد الضغط على لعريبي وجعله يصمم أن يعيد الفريق لمكانته الطبيعية، متحديا الظروف والمحيط والمرض، وبعد إلحاح العائلة والأصدقاء قصد لعريبي أطباء مختصين وكانت تمنح له في كل مرة نفس الأدوية، إلى أن قرر السفر إلى باريس للعلاج.رحلة علاج أخيرة وتوجيهات للوفاق عبر الرسائل من باريسأكد اليزيد قيرواني، رفيق لعريبي، في آخر رحلة علاج له بعاصمة الجن والملائكة سنة 1989، أن مختار قصد طبيبا مختصا بباريس أجرى له عملية جراحية بعدما تأكد من إصابته على مستوى الأذن اليمنى بمرض خبيث، ودامت رحلة العلاج حوالي أربعة أشهر، تكفلت الدولة بشهر واحد منها فقط. ورغم الداء وعبء “الغربة”، كان لعريبي يقدم التوجيهات للوفاق ومساعديه على رأس العارضة الفنية للفريق عبر البريد، قبل أن يعود إلى أرض الوطن، ووصل إلى معشوقته سطيف في حدود منتصف الليل، وفوجئ بحوالي 2000 شخص ينتظرونه بسطيف. وفي صباح اليوم التالي، ورغم المرض، طلب حضور اللجنة المسيّرة للوفاق لبيته واستفسر عن الأحوال، وعلم أن أحد اللاعبين قد تخلّف عن الإمضاء للوفاق، فبعث إليه طالبا الإمضاء بلا تردد، وكان له ذلك.ولم تدم عودته في أرض الوطن بعد رحلة العلاج طويلا، حيث سرعان ما تجدد المرض، وساءت حالة لعريبي ما اضطر ذويه لنقله إلى المستشفى العسكري بالعاصمة، غير أن المنية أبت إلا أن توافيه بمدينته وداخل منزله العائلي بحي “بومرشي”، في حدود الساعة التاسعة صباحا من يوم 4 سبتمبر من سنة 1989.سطيف تتوشح بالسواد ولاعبوه يحملون نعشه بزي الوفاقبسرعة البرق انتشر خبر وفاته، وبسرعة مماثلة عم الحزن أرجاء مدينة توشّحت يومها بالسواد، وبكى أغلب مواطنيها لوعة على فراق رجل الإجماع في سطيف.. وخيّم حزن شديد على الكبير والصغير على المناصر والمواطن العادي. وحمل نعشه من بيته على أكتاف لاعبيه، وهم بزي الوفاق الأبيض والأسود. وقد شلت في ذلك اليوم الحركة بالمدينة، فلا مجال يومها لاستعمال السيارة. وأصر الكثير على المشي وراء الجنازة من سطيف إلى مقبرة سيدي الخيّر على بعد حوالي 5 كلم، وكان أولهم بالمقبرة وآخرهم عند مداخل المدينة.متى “يعلّق العرجون” لهذه الأسطورة؟يقول المثل الشعبي الشهير “لما كان عايش اشتاق إلى تمرة، ولما مات علقوا له عرجون”.. وللأسف الشديد، فإن هذا المثل الذي قيل في حق الذين ينكرون جميل وصنائع الرجال في حياتهم ولا يذكرونهم إلا بعد وفاتهم، لا ينطبق على أسطورة كرة القدم الجزائرية مختار لعريبي، الذي اشتاق للتمرة في حياته ومماته، لأن القائمين على الكرة الجزائرية بوجه عام، وأبناء سطيف وعائلة الوفاق بصفة خاصة، تنكرت لهذا الرجل بعد مماته، وأدرجته ضمن قائمة النسيان. والغريب في الأمر أنه كلما يحاول بعض من بقي لهم ذكر لروح المرحوم، لم يتمكنوا من صنع أي شيء لإحياء الذكرى وإنصاف هذا الرجل العملاق، اللهم إلا مرتين أو ثلاثا، حينما نظمت دورات بسيطة بين الأحياء في كرة القدم، اعتبرها الكثير بمثابة “الإهانة” للرجل. وهو الأمر الذي أكده اللاعب الدولي السابق مليك زرڤان والذي قال “المرحوم لعريبي أكبر بكثير من دورات كرة القدم التي يحضرها كبار اللاعبين فما بالك بدورة بين الأحياء. والحقيقة أن لعريبي هو ضحية من ضحايا المؤامرة التي حيكت لتدفن أساطير الكرة بمقبرة النسيان، بدليل أن الكثير من الشخصيات الرياضية التي منحت الكثير لسطيف، هي الآن تعيش التهميش المبرمج.. والغريب في الأمر أنهم يأتون برياضيين من خارج سطيف ويقومون بتكريمهم، محاولين مضاعفة آلام أبناء سطيف من الأبطال”. فهل سيعود مختار عريبي في يوم ما، إلى عالم الأحياء الأموات ليوقظ ضمائرهم الميتة، ويبعث فيهم روح التذكار والوفاء للأموات من أبطال هذه الأمة؟ 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات