38serv
ساعتان من الزمن استغرق سفري الذي قادني للقاء “عصافير الرحمن”، من بين من كتب الله لهم أن يكونوا ممن نزلت آياته الكريمة عنهم. عصافير اختطف القدر معيلهم، لكن رحمة الخالق، أبت إلا أن تنزل عليهم، بأن كتب لهم أرزاقهم هنا وهناك لدى أهل الخير والإحسان، ممن يستمدّون قوتهم من بسمات تلك البراعم. لم أكن أعرف أن رحلتي التي انطلقت من العاصمة تجاه مليانة، بولاية عين الدفلى، ستكشف لي وجها أشد سوادا من ظلام ليل حالك، رغم أن التوقيت لم يكن تجاوز منتصف النهار إلا بسويعات قلائل. واقع الحال ألقى بنا في حضن بعض العائلات المقيمة فيما يمكن اعتباره “بيتا”، كشف لنا أقبح وجه للفقر والحاجة، وحجم المعاناة التي تتخبط فيها عائلات ماتنفك تحمد الله على نعمه، كاتمة صرخاتها في صدورها، مسايرة لفح الحر ولدغ البرد وجوع البطن. تذكرت هناك مقولة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، حين قال “المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء”.حق الفقير حرام في بطن الغنياستقبلتنا “أم المساكين”، وهو اللقب الذي اخترناه لتلك السيدة التي آثرت الخروج للتقاعد، ووهب نفسها لخدمة العائلات المحتاجة والمعوزة واليتامى في شتى مناطق مدينة مليانة، في عين لدفلى، ورفضت أن نكشف عن اسمها، خوفا من الرياء وابتعادا عن الأضواء والشهرة، وفضلت أن تبقى في الظل، تقوم بما تعتبره أدنى واجب يمكنها أن تقدمه لأبناء مدينتها.. بالمضي تطوعيا في العمل الاجتماعي والخيري، مشاركة إياهم فرحهم وقرحهم، ضحكاتهم ودموعهم. ورغم الصعاب والمتاعب، تمضي في زرع الأمل في قلوب المحتاجين، ونشر المحبة ما بينهم.لقاؤنا بـ«أم المساكين” كان في دار “البر والإحسان”.. برحابة صدر فتحت لنا أبوابها.. وبتواضع جلست إلينا وحكت: “قررت إحدى السيدات بعد وفاة زوجها، وهي تقطن بالجزائر العاصمة حاليا، إلا أنها سليلة مدينة مليانة، فتح أبواب شقتها في هذه الأخيرة، عوض تركها مغلقة، لتعليم القرآن وإعطاء دروس خصوصية في شتى المواد، واستقبال الأطفال اليتامى والمحتاجين وحتى الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، والمتوحدين، إلى جانب أبناء العائلات الميسورة الحال”. مردفة “الأطفال من عائلات ميسورة الحال، يلتحقون بدار البر والإحسان لأخذ دروس دعم في جملة من المواد، مقابل مبلغ رمزي قيمته 500 دج. إلا أن بعض الأولياء يتبرعون بمبالغ أخرى نستعملها لمستلزمات ومتطلبات العائلات الفقيرة والمحتاجة في المنطقة”.من الفقير إلى الغني يدان ومن الغني إلى الفقير أصبعانوبنبرة الواثقة من نفسها المؤمنة بأن الله أرسل عباده، وكل منهم له مهمة مكلف بها على وجه البسيطة، أشارت مضيفتنا إلى أن 5 معلمات التحقن بدار “البر والإحسان” للتكفل بتلقين الأطفال، مقابل مبلغ رمزي. مردفة “افتتحت دار البر والاحسان قبل 8 سنوات من الآن. هي ليست جمعية خيرية، لكن هناك ناس من أهل الخير يأتون إلينا لفعل الخير. والعديد من مشاكل سكان مليانة حلت بفضلهم، ومن بينهم المرضى. حيث نتوجه إلى المستشفيات، ونعمل على حل بعض المشاكل المتعلقة مثلا بإجراء التحاليل الطبية، والأشعة السينية، وغيرها مما هم محتاجون له. لكن للأسف الحاجة والفقر يجعلهم عاجزين عن إجرائها. لكن بفضل الله ومساعدات أهل الخير تتيسر الأمور، ويتم جمع المبالغ الضرورية لذلك. ولك أن تتصوري كم من مريض فرجت كربته بالتعاون والتكافل. والشيء الجيد في كل هذا هو المتابعة، إذ لا ينتهي الأمر بمجرد إجراء التحاليل أو غيرها بل تكون هناك متابعة لحالة المريض، إلى غاية امتثاله للشفاء ومغادرة المستشفى”. أنشطة دار “البر والإحسان” موجهة بالدرجة الأولى للعائلات الفقيرة والمحتاجة والمعوزة والمساكين والأرامل والأيتام، أغلبهم يعيشون في مستوى يكاد يكون بل هو تحت خط الفقر. فقر في أبشع صوره التي يندى لها جبين إنسان، الناسي في الكثير من الأحيان، ربما سهوا، لواجباته، وأحيانا ركضا لاستبقاء المال من أجل إنفاقه في لذائذ الحياة الدنيا، رغم أن للفقراء والمساكين والمحتاجين واليتامى حقا فيما يمتلكه ولو كان قليلا.. حقهم ليس مناسباتيا، ولا هو مرتبط بزكاة، رغم كون الأخيرة حق الفقير الذي إذا لم يصله كان حراما في بطن الغني.. وكما يقول سرفانتيس “من الفقير إلى الغني هناك يدان ومن الغني إلى الفقير إصبعان”.. هو حقهم الذي لا غبار عليه، وليس منّة من أحد عليهم. وكم من صدقة صغيرة تُذهب هموما كثيرة، والصدقة لا تنقص من مال أحد. وكم دفع الله عز وجل عن المحسنين والراحمين للضعفاء واليتامى من بلية.. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “من كان في عون أخيه كان الله في عونه”، و«الحسنة بعشر أمثالها”.من بين تلك الأنشطة التي ما تنفك دار البر والإحسان تواظب عليها: قفة رمضان، قفة الشتوية التي يتم توزيعها أواخر شهر ديسمبر وبدايات شهر جانفي، سدا لرمق وجوع محتاجيها، بعد أن يتم جمع ما تيسر من تبرعات من المواد الغذائية.. هنا أخذت محدثتنا نفَسا عميقا، جعلنا نعيش وإياها ولو عبر حديثها عن أولئك المحتاجين، معاناتهم ومآسيهم، لبرهة تغيّرت ملامح وجهها وغطاه حزن عميق.. كيف لا وممن كلمتنا عنهم من لا يجد قطعة رغيف يخفف بها جوع أطفاله في برد قارص، خاصة وأن المنطقة معروفة ببردها الشديد، إلا أنه لا يسأل الناس تعففا، إيمانا منه أن في التعفف صبر، وفي الصبر تقوى. تقول “أم المساكين”: “ما إن يدركنا فصل الشتاء ببرده وصقيعه، حتى نعمل على جمع ما تيسر من مواد غذائية وحبوب جافة من شأنها بعث الدفء في بطن المحتاجين، فكيف لنا أن نأكل وهم جياع؟”. هنا سألت محدثتنا عن مصدر المواد التي يتم جمعها فردت “منها ما نجمعه بدءا من أقاربنا ومحيطنا ممن هم ميسورو الحال، ومنها ما يتم اقتناؤه عن طريق التبرعات التي يقدمها أولياء التلاميذ الملتحقين بالدار”.حقائب مدرسية وأحلام مستقبليةدار “البر والإحسان” أطفال وكبار في أقسامها، التي رغم صغرها، ساهمت في لمّ شمل مراهقين وشباب بل وحتى مسنين حقنت في دمهم معنى العطاء وهم في أشد الحاجة.. توضح “أم المساكين”: “أصغر طفل في دارنا يبلغ 3 سنوات، والأكبر هي امرأة في عقدها السابع”.. سألتها كيف ذلك، فأجابت وابتسامة عريضة ارتسمت على ثغرها “دارنا مفتوحة للجميع، للفقير والغني، للصغير والكبير، لذوي الاحتياجات الخاصة والمتوحدين، لتلاميذ المدارس في مختلف الأطوار، لحفظة القرآن ولطالبي العلم.. مهمتنا إنسانية بالدرجة الأولى، وأيضا اجتماعية وتربوية وتعليمية وتثقيفية وترفيهية. كما أننا نحرص على تكريم الملتحقين بنا ولو بهدايا رمزية تشجيعية. فالكل مكرّم عندنا لتشجيعهم على بذل المزيد من الجهود، وبعث جيل شاب هو أمل المستقبل، نعمل على تأطيره وحمايته من الآفات الاجتماعية التي تنخر المجتمع، خاصة في ظل الفقر المنتشر هنا وهناك”.تصادف تواجدنا هناك مع توزيع مجموعة من الحقائب المدرسية على بعض التلاميذ، عكفت على تحضيرها مجموعة من الأصدقاء، بعيدا عن النشاطات الجمعوية. فقاسمنا الأطفال فرحتهم، ولكل واحد منا تصور أمل الفرحة التي ارتسمت على وجوههم، والبريق الذي ظل ينبعث من عيونهم، فغطى على آلام الشقاء والحاجة التي يعيشونها. في كل بسمة كنت أجد راحة نفسية منحني إياها طيور الرحمن. شدني حلم أحدهم في أن يصير طبيب عظام جراحا، والسبب وراء حلمه هو المحنة التي مر بها في صغره، في ظل سيادة “قانون الغاب” في مستشفياتنا. لوهلة تذكرت المثل القائل “عندك دورو تسوى دورو”. والطفل يتيم معوز لا حول ولا قوة له، لكن له الله وأهل الخير. أما شقيقه فيحلم بأن يصير رجل إطفاء ويقول “أحب أن أكون رجل إطفاء، لما للمهنة من جانب إنساني”. في حقيقة الأمر، على قدر ما يسعد المحتاجون والفقراء والمساكين واليتامى باهتمامنا بهم، فإن ما يقدمونه لنا من راحة بال تبعث الطمأنينة في أنفسنا، ومن سعادة تغمرنا بفرحهم، ومن تشبع عاطفي هم مصدره، أكثر بكثير مما يأخذونه منا، وهو ليس إلا حقهم عندنا.ليس للفقير معدة أصغر من معدة الغنيبقدر ما كنت أدرك وأنا أتجه للقاء عصافير الرحمن بمليانة، أن هناك من المحتاجين والمساكين الكثير، إلا أنني لم أكن أتوقع أن مدينة الكرز، التي مر عليها الفينيقيون والرومان والعثمانيون، ولم تتوقف بها المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، وأنجبت الكثير من الدكاترة والمهندسين والإعلاميين والأساتذة وغيرهم، تحتضن سكانا يعيشون مأساتهم في صمت.. لكني علمت أن “زوكابار” وهو اسم المدينة الروماني، أنجبت أشخاصا تنطبق عليهم الآية 273 من سورة البقرة “للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم”. بعد أن أصرّت “أم المساكين” وزوجها على استضافتي ومرافقتي في أحد المطاعم العريقة، وسط المدينة، أخذتني للوقوف على حالات أقل ما يمكن القول عنها إنها مأساة بأتم ما تحمله الكلمة من معنى. لا يمكن لعقل أي إنسان أن يستوعب ما رأته عيناي، وما عشته في أول بيت زرته، والذي لم يكن في قرية نائية معزولة على حافة المدينة، ولا في دشرة مترامية هنا أو هناك، بل كان في قلب التي فقدت الكثير من معالمها بحجة الصيانة والترميم. غادرت المكان الموحش، وقد تهت في جملة أفكاري المشوشة التي لم أكن أقوى على ترتيبها.اتفقت و«أم لمساكين” أن نتوجه صوب منطقة سيدي لخضر، لزيارة إحدى العائلات المعوزة. كانت وما زالت هناك غصة في حلقي، وثقل جاثم على صدري، بعدما رأته عيناي وصعقت له، توقفنا منتصف الطريق، وعشت مأساة أخرى، لكني تغذيت هناك من قوة أصحابها وصبرهم وجلدهم. أبطالها أشقاء، اثنان منهم معاقان جسديا وذهنيا، والمتكفلة بهما كانت مصابة بمرض عضال.. حياتهم بسيطة جدا لا تكلف فيها، تكاد تكون غرفتا البيت فارغتين، إلا بما تم تقديمه من أهل الخير من مساعدات. حدثتني شقيقتهما والدموع تنهمر من عينيها، وصوتها يتقطع خجلا تارة وحسرة تارة أخرى، لكنها ما انفكت تحمد الله على عطائه.. منها تعلمت الكثير، رغم أنها لم تكن تدرك أنها أعطتني دروسا مكثفة عن القناعة، وأنها حقا كنز لا يفنى. أعطتني إياه دون مقابل، مع أنها بأمسّ الحاجة إلى المال.تعيش العائلة التي لا دخل شهريا لها عدا منحة 4000 دج تقدمها الدولة لكل واحد من شقيقيها، ومنحة 3000 دج تقدمها لها، إلى جانب مساعدة من قبل إحدى الجمعيات 800 دج لكل واحد شهريا. فهل يعقل أن تعيش مثل هذه الحالات بمثل هذا المبلغ الزهيد، الذي لا يكاد يكفي لأي شيء في ظل غلاء المعيشة، وحاجياتهم التي يعرفه كل واحد منا؟ شقيقتهم التي لم يغب ذكر الله وحمده طيلة الوقت عن لسانها، تقول “الحمد لله كثيرا، لا أريد سوى مساعدتي لأتمكن من توفير الطعام لـ«ريحة يما” رحمها الله. أبذل ما في وسعي لتوفيره لهم، لكن هم بحاجة لحسن التغذية نظرا لحالتهم الصحية”. استجمعت كلماتها وواصلت “بحاجة هم إلى الطعام والحفاظات، تشترط الجهة المانحة أن أضع حفاظة واحدة طيلة اليوم، فهل الأمر معقول؟”. ودّعنا الأشقاء، ودموع الشقيقة الكبرى ترافقنا، وصوت شقيقتها المعاقة المتقطع وهي تحاول توديعنا يتبعنا، خاصة بعد أن اعتقدت أن “أم المساكين” هي والدتها رحمها الله، فراحت تصيح بصوت لا يكاد يغادر حلقها “ماما ماما”. مشهد جعلني أذرف دموعي دون أن أدري. تسارعت دقات قلبي ولم أكن أقوى على التنفس. تذكرت ما قاله جون جاك روسو “ليس للفقير معدة أصغر من معدة الغني ولاللغني معدة أكبر من معدة الفقير”، فهل من سادٍ لجوع هؤلاء؟يجعلك الفقر حزينا كما يجعلك حكيماأكملنا طريقنا صوب منطقة سيدي لخضر التي تبعد عن مليانة ببضعة منعرجات، التي تجاوزناها بعد 15 إلى 20 دقيقة، بينما لا تبعد عن خميس مليانة إلا مسافة 5 دقائق بالسيارة. وصلنا بيت (ن.ع)، أب لأربعة أطفال، مكفوف، لا دخل له، طالب علم واجتهاد، يعشق الاغتراف من العلوم الدينية، التي يرى فيها صلاحا له وللمؤمنين في الدنيا والآخرة. يعتمد على نفسه في كل شيء، حتى في إدخال المفتاح في قفل الباب دون أن يراه، معتمدا على حاسة اللمس. يرفض تقديم المساعدة في إيجاد المفاتيح رغم كثرتها، في درس أكثر من أهم في المثابرة.. ذكرني بقصة “النملة المثابرة”، وبعد عدة محاولات دون كلل أو ملل، فتح لنا باب “بيته” إن صح اعتباره كذلك. دخلنا المكان، وأول ما شدنا غياب السقف، ورائحة الفقر التي تنبعث من كل شبر فيه. تسلم محافظ بناته الثلاث، والسعادة تغمره، ولو أن انشغال باله على عيني إحدى بناته كان ضمن حديثنا، يقول الصبور “منذ وقت قصير اكتشفت أن لديها ضعفا في البصر، قام أهل الخير بالواجب ونقلوها إلى مستشفى “بارني” بالعاصمة، فوضعت نظارات، ونحاول متابعة الوضع حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه”. دهشت للرجل الذي لم يشتك حاجته وأنا أقف على هول الوضع، ولم يسأل سوى عن كتب علم نافع للدنيا والآخرة.. آه كم أنت ظالمة يا دنيا.لم يتمكن مرافقي من الصمود وعاد أدراجه إلى السيارة، بعد توديعي لـ«أم المساكين”، وقطعي وعدا لها بالعودة. مضيت في طريقي، وإذا باتصال يردني، رويت له فظاعة ما رأته عيناي، وإذا بقراره ينزل بردا وسلاما علي. المفاجأة كانت أخذ أضحية عيد لأولاد الرجل الكفيف، في اليوم الموالي، وكبشان تصدق بهما أهل الخير لعائلتين هناك، إحداهما بها 6 أطفال يتامى والثانية 3 يتامى، وضعهما مأساوي إلى أبعد الحدود، وفوق ما يتصوره الخيال. ودعت مليانة على أمل العودة قريبا، بعد إطلاقنا حملة لجمع الأغطية الصوفية لثلاثين عائلة فقيرة ومعوزة هناك، بمعدل 5 أغطية لكل واحدة.. “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات