38serv
يرضخ الكثير من الأولياء لرغبات أبنائهم ويجتهدون في توفير جميع متطلباتهم الثانوية والكمالية حسب إمكانياتهم المادية، ظنا أن سلك هذا الدرب يثمر ذرية ناضجة ومتفوقة في الدراسة، لكنهم سرعان ما يجدون أنفسهم متورطين في تحقيق رغبات لا تكاد تنتهي، والأخطر هي الانعكاسات السلبية على شخصية الأطفال نتيجة دأبهم منذ نشأتهم على الاتكال على أوليائهم الذين لم يتركوا شيئا إلا وفروه لهم.يقول المثل الشعبي “إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده”، وهو الأمر الذي أصبح يخيف الأستاذة الجامعية “حكيمة.ب” على مستقبل ابنها الوحيد الذي يدرس في الابتدائي، ودفع بها إلى البحث عن سبل تحفيزية جديدة تكون أقل خطورة من الدلال والإغراق في البذخ. أغرقته في البذخ حتى فارق الحياة!“وفرت له كل وسائل الراحة والرفاهية، فجهزت غرفة نومه بمكتب وكمبيوتر وألعاب فيديو، جهاز “أيباد” مجهز بأنترنت ظنا مني أن بهذه الخطوة سيعزف عن الشارع ومجالسة رفقاء السوء، وسينصب تركيزه على الدراسة”، تقول الأستاذة لـ«الخبر”.غير أن الوالدة تداركت الأمر وقامت بجمع بعض أغراضه وألعابه وإخفائها خارج غرفته.. “وحتى الحاسوب نزعت كوابله ولا يشتغل إلا بحضوري أو تحت رقابة الوالد”. والدافع، حسبها، يرجع إلى التكلفة الباهظة التي دفعتها صديقتها وزميلتها في الجامعة التي فقدت فلذة كبدها للأبد، إثر حادث مرور مميت.تسترسل محدثتنا تروي قصة صديقتها التي استسلمت لرغبات ابنها الذي غادر الحياة وهو في سن 16، ولم تترك له خلال تلك السنوات شيئا إلا ووفرته: “لقد عاش المرحوم 16 سنة مترفة ملؤها الدلال واللامبالاة، فقد وفرت له كل شيء يمكن أن يحلم به طفل صغير، وبعدها حققت له أحلام المراهقين باقتنائها سيارة له وهو لا يزال في سن الـ16 من العمر، كما سافر إلى مختلف بلدان العالم حتى كف عن الأحلام ولم يعد لديه أهداف أو أحلام يسعى إلى تحقيقها، فأراد عدة مرات الانتحار بسبب الفراغ، وفي الأخير فارقها للأبد إثر حادث مرور سببه التهور، ما جعل الأم تفقد صوابها وتلوم نفسها على البذخ الذي أفسد شخصيته وجعله شابا طائشا أنانيا وغير مسؤول”.تحفيز سلبيويواجه الأولياء امتحانات صعبة مع انطلاق كل موسم دراسي جديد، يكمن في توفير حزمة لا منتهية من الأدوات المدرسية، ظنا أن ذلك يحفزهم على حب الدراسة.لكن هذا التحفيز وبفعل الإفراط والمبالغة فيه، أصبح حتمية مفروضة تنعكس على تراجع المستوى الدراسي للتلميذ، كون جميع ما كان يصبو إليه التلميذ ينتهي في حصوله على الجائزة والمكافأة التي وعد بها ولم يعد هناك داع للاجتهاد بعدها. وتعددت أشكال التحفيز للتلميذ حتى أصبحت مكلّفة في أغلب الأحيان وترهن جيب الأولياء الذين يخصصون ميزانيات من أجل تغطية أعباء ومتطلبات الأطفال فقط، وقد يجرهم ذلك لتسديدها بالتقسيط، خاصة أن أغلبهم سلموا بأن عدم إحساس أبنائهم بالنقص أمام زملائهم سيزيد من تركيزهم في الدراسة.ولأم دنيا التي تحصلت على شهادة التعليم الأساسي السنة الماضية رأي مخالف في الموضوع، حيث قالت: “يفرض تنوع المشتريات ووفرتها بالسوق إلى جانب التقدم التكنولوجي الموجود على الأولياء مسايرتها واتباع ما يتطلبه العصر، وبالتالي نحن مجبرون على توفير كل ما هو باهظ وذي نوعية جيدة للأبناء، خاصة منهم المتمدرسين”. وتواصل السيدة نصيرة تشرح الورطة التي وقع فيها آلاف الأولياء الجزائريين: “في الماضي كانوا يعمدون على تحفيز أبنائهم على الدراسة والمثابرة مقابل شراء هدية بسيطة، أما اليوم فأصبحوا أمام امتحان صعب حول التحفيز في نظر الأبناء إلى التزام، ومن يخل بهذه الالتزامات يعد بخيلا ولا يتماشى والعصر”.من جهتها، تقول السيدة آمال أم عبد المجيب إن لوازم الدخول المدرسي أصبحت ضرورية وأضيفت إليها كماليات أخرى لا يمكن الاستغناء عنها، مشيرة إلى أن الأمر لم يبق مقتصرا على الأطوار التعليمية فقط، بل تعدى إلى دور الحضانة، حيث أكدت أنها ملزمة بتوفير العديد من الأمور لابنها. كما صبت المتحدثة غضبها على ما تجلبه الأسواق من أدوات دراسية عصرية مستوردة من خارج الجزائر على غرار الكتب والأقلام والمحافظ.. والتي من شأنها توسيع بؤر التفرقة والتمييز بين تلاميذ القسم الواحد.دلال يتحول إلى "هبال"السيدة “فهيمة. م” هي الأخرى شربت مع ابنها أمين المدلل جرعات متتالية من العلقم، واليوم بعد 22 سنة من ولادته اعترفت بأن الذنب ذنبها وتتحمل مسؤولية انحرافه.تقول فهيمة: “لم أترك شيئا إلا ووفرته له منذ ولادته، كان دائما الأحسن مظهرا بين أقرانه، وسجلته في مدرسة خاصة بالأبيار لتفادي الاحتكاك برفقاء السوء بحي باب الوادي الشعبي في العاصمة، مقر سكناها”.ولسوء حظ السيدة، نشبت خلافات بينها وبين زوجها انتهت بالطلاق، فتدهورت أوضاعها المالية وانتقلت للعيش في بيت عائلتها ووجدت نفسها مجبرة على تسجيل ابنها في مدرسة عامة، ومن ثم انطلق مسلسل متاعبها.بدأ أمين يكبر وينحرف عن الطريق الصحيح، انطلاقا من التسرب المدرسي إلى ممارسة الآفات الاجتماعية، وهكذا توقف عن الدراسة وأصبح لا يبالي بأي شيء، فقررت والدته إرساله إلى إحدى الولايات الجنوبية عند خاله للعمل هناك.لكن الشاب المدلل لم يستطع العيش بعيدا عن حضن والدته ليعود إلى المنزل بحي باب الوادي الشعبي، فوجدت السيدة نفسها في ورطة حقيقية وأخذت تبحث عن حلول جديدة تنقد بها فلذة كبدها، لترسله في الأخير إلى فرنسا عند خاله الآخر، وهناك تزوج بابنة خاله المزدوجة الجنسية وظنت الوالدة أنها ارتاحت.مرت أيام قليلة من زواج أمين بابنة خالته، إلا أنه عاد ليسلك الطريق الخاطئ، لكن هذه المرة في ديار الغربة بعيدا عن حماية والدته، ليقع بين مخالب البوليس ويُزج به في السجن لمدة سنتين، وبعد خروجه عاد إلى الجزائر تاركا وراءه أما ورضيعها.تقول السيدة متحسرة: “لقد تغيرت ملامح وجهه الوسيم وتحولت نظرات عينيه الخضراوتين إلى نظرات قاسية وتعكر مزاجه وصار إنسانا سلبيا، لا يدخل البيت إلا في ساعات متأخرة من الليل ولا أستطيع لومه ولا معاتبته، هو الآن تائه في عالمه، وغير قادر على صناعة مستقبله بنفسه”.انفصال الشخصيةيسعى الأولياء إلى توفير الحماية الكافية لأبنائهم من كل المخاطر المحدقة بهم، لذلك تجدهم ينوبون عنهم في اتخاذ القرارات والقيام بالأعمال الخاصة بدلهم، الأمر الذي يفقد الطفل الثقة بالنفس وفي كل القرارات التي يعزم القيام بها، وحتى آرائه وأفكاره، وهو حال “مروى”، طالبة جامعية في سن الـ19، التقينا بها في إحدى عيادات الاستشارة النفسانية بالعاصمة التي تتردد عليها بشكل دوري رفقة والدتها للحصول على مساعدة الأخصائية النفسية المشرفة على حالتها، وكان لنا معها حوار دام لبضع دقائق قبل دخولها إلى جلسة العلاج.لم تخف “مروى” عنا سبب مجيئها إلى العيادة، واعترفت بأنها فتاة لا تثق في نفسها وقدراتها، كما أنها لا تستطيع التعبير عن آرائها ومواقفها واتخاذ قراراتها بنفسها، فتلجأ في كل مرة إلى عائلتها لتتولى الأمر عنها، فتقوم والدتها وإخوتها بتوجيهها إلى الطريق الذي يرونه مناسبا لها، لتكون ملاحظاتهم وإرشاداتهم بمثابة الأمر الواجب إطاعته، كونها لا ترى طريقا آخر تسلكه، وحتى إن وجد فإن مروى تتحاشى سلكه ويكون سببا في ضياعها، على حد قولها.تجد محدثتنا في هذا المشكل عائقا يقف أمام تقدمها في حياتها العلمية والعملية، والدتها هي من اختارت الشعبة التي درستها في الثانوية، والأمر نفسه فيما يخص اختيار تخصص الحقوق الذي اتبعته في الجامعة، والذي لم يكن متوافقا مع ميلوها الدراسي، ما سبب لها نفورا من الدراسة قبل بدايتها، واعترفت لنا بأنها كانت تريد التسجيل في المدرسة العليا للأساتذة لتشرف على تربية وتعليم الأجيال.بمجرد سماعها للطبيبة وهي تنادي باسمها، نهضت مروى باتجاه المكتب المحاذي لغرفة الانتظار وهي تقول لنا إنها عازمة على استرجاع ثقتها في نفسها وتأمل في أن تكون الجلسات العلاجية التي تأخذها في العيادة معينا لها لبلوغ هدفها، وهنا وجدت والدة مروى فرصة لتعترف لنا بأنها وباقي أفراد الأسرة كانوا سببا غير مباشر في المشكلة التي تواجهها ابنتها اليوم، وصرحت لـ«الخبر” قائلة “خوفنا الدائم على ابنتنا الصغيرة والوحيدة جعلنا نتكفل بكل أمورها، صغيرها وكبيرها، ولم نكن نعلم أن الحماية المفرطة قد تتحول إلى خطر على الأبناء”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات