38serv
كل شيء تغير في حي 5 جويلية بمدينة بجاية الذي شهد قبل أيام قليلة أفظع جريمة وقعت بين أفراد عائلة واحدة، بسبب قطعة أرض ليست ملكا لهم، خاصة لما بلغ مسامعهم أنها الحلقة الأخيرة من سجل إجرامي طويل يحمل توقيعات لجرائم كثيرة صنفت ضمن “الحوادث العابرة”. قليلون هم سكان الحي الذين يعدّون شهود عيان الحلقة الأخيرة من السلسلة الإجرامية التي بلغ صيتها حدود ما وراء البحار. ويتعلق الأمر بنشوب خصام بين أخوين توأمين، عمرهما تجاوز 77 سنة، في حديقة صغيرة بجوار البيت العائلي الموروث عن الوالدين اللذين تُوفيا قبل 30 سنة. الكل يعرفهما في الحي وهما عمي طاهر وعمي أحسن.البداية كانت بتبادل الشتائم والكلام البذيء، ثم تطور الصدام إلى البصق على الوجوه، ليصل النزاع إلى التشابك بالأيدي، فتمكن عمي طاهر من إسقاط شقيقه أحسن أرضا وانهال عليه بالضرب المبرح بواسطة عصا تستعمل لبعض الآلات الفلاحية.. الدماء تسيل من وجه المطروح أرضا، ولأن المعركة لم تنته، حاول بعض الجيران الذين كانوا يتابعون أطوارها من وراء السياج الحديدي التدخل، وخلالها حاول عمي أحسن أن ينتقم لنفسه بتوجيه ضربة عنيفة لأخيه على الرأس بواسطة قضيب حديدي، إلا أن عمي الظاهر كان يقظا، حيث فاجأه بطعنة بواسطة منجل فلاحي أفقدته وعيه. وفي هذه الأثناء وصل رجال الأمن والحماية المدنية الذين نجحوا في دخول الحديقة وتوقيف المعتدي، ونقل الضحية إلى المستشفى فاقدا للوعي والدماء تنزف من جهات كثيرة من جسمه.لم ينصرف الحضور حتى وصل أبناء الشقيقين، ودخلوا جميعا البيت، لتبدأ معركة جديدة وجماعية بين أبناء الأعمام، وقد كانت البداية من الابن الأصغر لعمي أحسن الذي تأكد له مقتل أبيه عندما رأى الدماء الكثيرة المتناثرة في الحديقة والمنزل وحتى الطريق الرابط بين الحديقة والبيت، ما أفقده صوابه وهاجم بعنف أحد أبناء عمه بواسطة ساطور فأصابه في الرأس، لتبدأ الدماء تسيل من جديد في الحديقة، فتدخل آخرون، وتحول فناء المنزل التقليدي إلى مسرح لمعركة جماعية.. ضرب وصراخ وسب وشتم، ومن داخل البيت يسمع دوي الأبواب المتساقطة.لما وصلت الشرطة كانت المعركة قد أوشكت على نهايتها، واكتفى أفرادها بعدِّ الجرحى والمطروحين أرضا، وتوقيف من بقي منهم واقفا على رجليه، واقتادت البعض منهم إلى المستشفى والبقية إلى مركز الشرطة.بعد ساعات من وقوع الحادث كان عمي أحسن قد استعاد وعيه، واحتراما لكبر سنه طُلب منه بكل لباقة الحضور طوعا إلى مركز الشرطة، ففعل ثم انصرف.اعتقد المحققون أنهم توصلوا إلى إنهاء الصراع القائم بين الطرفين، لكنهم صعقوا عندما أخبرهم شرطي أن عمي أحسن كتب بدمه عند مدخل الحي الذي يقيم فيه، طالبا من أبناء عمه الموالين له الانتقام ممن أسال دمه وأهانه بين الأعراش والقبائل.بسرعة كبيرة تنقلت وحدة للشرطة إلى بيت عمي أحسن، وقامت بمسح كتابه الجداري وإحضاره من جديد إلى مركز الشرطة، ولما رفض ذلك أُحضر بالقوة، ما أثار حفيظة أبناء عمه وجيرانه الذين طالبوا بالتعامل معه باحترام، وطلبوا منه مرافقة أفراد الأمن إلى مركز الشرطة والدفاع عن نفسه.حلقة أخرى.. أبطالها النساء!لم تنته المعركة الدامية في صف الرجال حتى انتقلت إلى معشر النساء في المنازل، ليبدأ التشابك بالأيدي وتمزيق الثياب، ويسمع صوت الزجاج المنكسر، ثم أصوات أخرى عنيفة، ولما وصلت مصالح الأمن وأغلب أفرادها من العنصر النسوي كان الصدام متواصلا، والدماء تسيل. الحصيلة: 3 نساء تعرضن للطعن بالخناجر، و5 عجائز في حالة فقدان للوعي، والبقية فضلن الاختفاء في مناطق متفرقة من البيت العائلي قبل توقيفهن جميعا. وأغرب ما وقفت عليه محافظة الشرطة عروس لم تمر 3 أيام على زفافها، حاولت طعن حماتها بخنجر طويل لكونها عائلتها من الجهة المتخاصمة!محققو الشرطة يفكون الألغاز..بعد أيام قليلة شرع محققو الشرطة في استدعاء المتشاجرين من أجل مباشرة تحقيقات تكميلية معهم.. المهمة لم تكن سهلة، فالتهديدات المتبادلة تلقى جهارا، حاول مفتش شرطة تفريق أفراد العائلتين وإبعادهما عن بعضهما البعض، لكن محافظ الشرطة الذي كان يقود عملية التحقيق أمر الشرطي بالانسحاب وترك أفرادها يتبادلون الشتائم والاتهامات فيما بينهم.. فقد كان على يقين أن حقائق كثيرة ستبزغ قريبا. أحدهما قال للآخرين “لن تنالوها حتى ندخل جميعنا في قبورنا” ورد عليه آخر “سنسقيها بدمائنا ولن تنالوا منها شيئا”، وأضاف آخر “ستمرون إلى هذه البقعة على ظهورنا ونحن موتى، ودون ذلك لا تأملوا في شيء”، وتواصل تبادل الاتهامات، وضابط الشرطة يدونها واحدة تلو الأخرى لغرض التحقيق.كان أفراد العائلتين المتناحرتين قد تعمدوا عدم الكشف عن الأسباب الحقيقية التي دفعتهم للتقاتل إلى درجة التصفية العائلية، ونفوا للمحققين أن يكون الدافع هو الأرض أو ما شابه ذلك. ولفك اللغز قرر محافظ الشرطة الانفراد بالعجوزين عمي طاهر وعمي أحسن، وتعمد استفزازهما لمعرفة السبب، لكن المعنيين استحضرا وفاء الطفولة وأقسما بأن السبب متعلق بمنحة التقاعد، وأن الخلاف مالي بالدرجة الأولى.انفرد المحافظ بشرطيتين دخلتا حيث توجد النساء الموقوفات، فبادرهن المحافظ بسؤال مفخخ قائلا لهن إن الرجال اعترفوا بأن القطعة الأرضية هي سبب الخصام، وإن النسوة تعاركن من أجل لا شيء، ليأتي الرد جماعيا “خونة.. خونة”، وبدأت المجموعتان تتقاذفان تهم الكشف عن القطعة الأرضية محل النزاع.الشرطة تحقق في القطعة الأرضية والجرائم التي ارتكبت من أجلهافتح محققو الشرطة ملفا آخرا حول طبيعة القطعة الأرضية المتنازع عليها، وغايتهم الكشف عن أسباب التستر عنها من قبل العائلتين، رغم حدة الخلافات فيما بينها. أفضى التحقيق إلى الحقيقة المرة، وهي أن القطعة الأرضية ليست ملكا لهم وإنما لامرأة من العائلة تقيم في فرنسا، استولوا عليها بتزوير وثائق كثيرة بتواطؤ أشخاص كثيرين، منهم موثق وعون الحالة المدنية وإطار بمديرية أملاك الدولة، ليظهر فيما بعد أن القطعة الأرضية لا تعدو أن تكون هي الحديقة التي تقاتل فيها العجوزان عمي طاهر وعمي أحسن، إذ أحضر عمي طاهر الوثائق المزورة التي تشهد أنها ملك له، وأنه الوحيد الذي له حق الانتفاع بها، بينما قال عمي أحسن إن الأرض ملك لامرأة قدمتها له هبة، واستظهر وثائق مكتوبة، فاتهمه شقيقه بالكذب والتزوير، ليتبين لمصالح الشرطة بعدها أن القطعة الأرضية هي من أملاك الدولة.النزاع ينتقل إلى باريس!الكشف عن السر زاد من حدة التوتر بين أفراد العائلتين اللتين يجمعها دم واحد، ليتجدد الصراع من جديد، لكن هذه المرة في موقعين متباعدين، أحدهما بالقرية، حيث انتهى الشجار العنيف بطعن أحدهم ابن عمه بمنجل فأرداه قتيلا وأصيب آخرون بجروح متفاوتة، والموقعة الثانية كانت في باريس، لما انتقلت حرب العائلة إلى قلب عاصمة الجن والملائكة، فقام أحدهم بإطلاق الرصاص على أبناء عمه وهم يجهلون أصلا ما يحدث في البلد.تدخل الشرطة الفرنسية أفضى إلى توقيف الجميع واقتيادهم إلى مصالح الأمن لغرض التحقيق، وهو ما رفض في البداية الخضوع له، بدعوى أن الحادث وقع بالجزائر.الشرطة تحجز المسدس وتقود الجميع إلى مركز التحقيق، ولدى تقديم الجميع إلى وكيل الجمهورية قرر إيداع بعض الرجال الحبس الاحتياطي، ووضع النساء قيد الرقابة القضائية، في انتظار المحاكمة الكبرى.الخبر بلغ القرية وسارع العقلاء إلى احتواء الوضع قبل تجدد القتال بين أفراد العائلة الواحدة، وأدرك الجميع أن الجرائم التي سجلت بسبب القطعة الأرضية لا علاقة للتوأم العجوز بأمرها، وتمكنت الشرطة من توقيف مقترفيها الذين حاولوا استغلال النزاع لتصفية حسابات قديمة.قصة التوأم أحسن وطاهرمنذ أن كانا طفلين صغيرين، كانا يتحابان ويحميان بعضهما البعض، يتعاونان في جمع الزيتون ورعي الغنم، يتكفلان بشؤون الاقتصاد العائلي، يتميزان بخفة وحيوية جعلت الناس تضرب بهما المثل في النشاط والاجتهاد، فقر والدهما حال دون تعليمهما لكنه كان يرسلهما إلى المسجد المجاور لحفظ القرآن وتعليم أسس الدين.وحسب أفراد العائلة، فإن طاهر كان أقرب إلى الدين من شقيقه أحسن الذي انشغل بمشاغل الدنيا، وتواصلت العلاقة الأخوية بينهما لسنوات طوال، حيث قررا تنظيم حفل زفاف واحد في سنة 1963 لينجبا أولادا وبنات، ويأتي بعدها موعد الفراق، حيث يقرر عمي أحسن استغلال قبول فرنسا بهجرة عدد من الجزائريين سنة 1970 في إطار البحث عن اليد العاملة ليلتحق بفرنسا ويشتغل في البداية بمصنع للحديد والصلب، قبل أن ينتقل إلى مصنع لإنتاج الجعة. بينما فضل عمي طاهر البقاء في القرية ليتكفل بحماية عائلته وعائلة أخيه المهاجر الذي وعده بترحيل عائلته بتوفر أول فرصة له.خلال تواجد عمي أحسن بالغربة، كان يرسل حوالات بريدية بشكل مستمر لشقيقه من أجل التكفل بالعائلة وشراء قطعة أرضية لبناء منزل يكفي لإيواء عائلتيهما، وهو ما فعله عمي طاهر. ولتأكيد حسن نيته ودون علم شقيقه توجه إلى الموثق وحرر عقد الملكية باسميهما.كانت علاقتهما مثالية، إلى أن حلت المصيبة بالبيت العائلي، لما توفيت زوجة عمي أحسن وأعاد الزواج أشهرا بعدها، لتظهر ملامح حياة أخرى عند الشقيقين، حيث كانت الزوجة الثانية تستفزعمي طاهر وأبناءه بدعوى الاستيلاء على كل أملاك زوجها الجديد، ومن بينها البيت الذي يقيم فيه بحي طوبال، والحديقة التي كان يستغلها منذ إحالته على التقاعد، وبدأت الشرارات تنطلق من هنا وهناك، وتحول عمي أحسن إلى شخص آخر، وتبدل لسانه، وأبدى قسوة وكراهية لأفراد عائلة شقيقه، لم يكن يُتوقع مثلها أحد من معارفهما.موعد المحاكمة كان مشهودايوم المحاكمة لم يكن عاديا، فهو أشبه بعرس، نساء، رجال، أطفال وفضوليون كثر أخذوا مواقعهم في القاعة الكبرى.. ظهر التوأم العجوز رفقة عدد من أبنائهما في قفص الاتهام الذي بدا لا يتسع لهم جميعا، ما جعل الشرطة تسمح لبعضهم بالوقوف وراء منصة الاتهام.يدخل الرئيس ويطلب من الجميع السكوت خلال أطوار المحاكمة، وأخبر الحضور أن محاكمة أخرى تقررت في فرنسا لكنها تأجلت لأسباب غامضة. وبعد إعطاء الكلمة للمتخاصمين وعدد من الشهود، أطنب الرئيس في خطاب اللوم، ولم يتردد في وصف الزوجة الثانية التي كانت حاضرة بـ “الستوتة” التي فجرت عائلة صمدت لعوامل التفرقة لسنوات طويلة من الزمن. وبعد أن أعطاهما الرئيس فرصة الكلمة الأخيرة، أجهش كلاهما بالبكاء، وكانت المفاجأة غير المتوقعة هو تعانق الشقيقين التوأم وتبادل طلبات العفو، وبكوا وأبكوا كثيرا ممن حضر في القاعة. وبعد المداولات جاء الحكم ليتكيف وظروف المحاكمة، حيث أدين الشقيقان و3 من أولادهما بـ3 سنوات سجنا غير نافذة، وانتهت المحاكمة دون أن يسأل أحد عن مصير المجرمين الذين حاولوا إلصاق جرائمهم بالتوأم العجوز.الطبيب النفساني بناي صغير “القضية جديرة بالدراسة”قال الطبيب النفساني بناي صغير من مصالح الحماية المدنية، إن قصة التوأم العجوز فريدة من نوعها وجديرة بالدراسة من قبل الباحثين في علم النفس الاجتماعي، إذ تحمل الظاهرة مؤشرات كثيرة متعلقة بحقيقة العلاقة التكاملية بين العائلات الجزائرية مهما تصاعدت حدة الخلافات والنزاعات فيما بينها، عكس مجتمعات أخرى يغيب فيها مبدأ التسامح والتصالح.وأضاف أن المجتمع الجزائري معروف بمزاجه المتغير، لكنه متحكم فيه إلى درجة كبيرة، وهي النقطة التي تجعله يتميز عن كثير من المجتمعات العالمية، كما أن المهتمين في الشؤون الاجتماعية وقفوا خلال المحاكمة على ظاهرة اجتماعية خالصة في حاجة إلى من يترجمها إلى دراسة علمية، وهي تصلح لأن تكون سيناريو رائعا لفيلم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات