38serv

+ -

 ذاع صيت الروائي التركي الراحل يشار كمال، واسمه الحقيقي صديق كمال غوتشلي، منذ سنة 1955 حينما نشر الجزء الأول من رباعيته حول شخصية “ميميد النحيل”. اكتسب شهرة عالمية، فترجمت أعماله إلى أكثر من أربعين لغة، وقام الممثل البريطاني الشهير “بيتر أوستنوف” سنة 1984 بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي من إخراجه وبطولته. تترجم أعمال يشار كمال مأساة ومصائب الفلاحين، وهم يصارعون كل جبروت آغاوات جبابرة.تزخر روايات يشار كمال، التي أدرجها النقاد في خانة “أدب الفُتوة” وأدب القرية”، بروح التمرد الناتج عن فساد أخلاق أغوات نظام إقطاعي بال. ونجد هذه الأعمال تغوص في الوقت نفسه، في قسوة الحياة، لكنها تقدم إمكانية الصمود في وجه الظلم. جاءت روايته “ميميد النحيل” مليئة وزاخرة بروح نضالية وإنسانية. وأبرزت سعي “محمد النحيل” للوقوف على رجليه، وتجنب الانكسار والانبطاح في مجتمع تسكنه القسوة وتغيب فيه العدالة، ولا تبرحه مخلفات النكوص بفعل غطرسة الآغاوات وتجبرهم وتصرفهم كسادة يتحكمون في مصائر الضعفاء من حولهم، فلا يجد محمد النحيل من وسيلة للبقاء والتخلص من هذه السيطرة المقيتة التي تقتل فيه روح الحياة، سوى إعلان تمرده والالتحاق بقطّاع الطرق الشرفاء الرابضين بالجبال بعد أن انسدّت الآفاق في وجهه. وقد استقى كمال أحداث روايته وشخصية “ميميد” الأسطورية، من تمرد أحد أخواله على سلطة الأغا، وقرار التحاقه بعصابات الشرف، ليلقى حتفه وهو في سن الخامسة والعشرين، ويموت بطلا ترك أثره في المروي الشعبي. وبعدها بسنوات قام ابن اخته بتخليده وتحويله إلى أسطورة عالمية.تشكل ثيمتا العنف والأرض محورا أساسيا في أعمال يشار كمال التي تنطلق من أراضي مقاطعة “جكوروفا”، ليأخذ الأدب عنده شكلا من أشكال المقاومة، ومحاولة تدمير سلطة الآغاوات، انطلاقا من هضبة “توروس”، قبالة المتوسط أين استقرت عائلته الكردية فرارا من الأناضول إثر الغزو الروسي خلال الحرب العالمية الأولى.احتل العنف مكانة محورية في حياة كمال منذ أن كان في سن الرابعة، حيث تعرّض والده صادق أفندي لطعنة خنجر داخل المسجد، من قبل “يوسف” ابنه بالتبني، فأردته قتيلا أمام عيني ابنه يشار. رسخت الحادثة في ذاكرته، ففقد النطق على إثر ذلك ولم يسترجعه إلا بعد مضي ثماني سنوات، قضاها فقيرا رفقة والدته نيجار هانم. وقبل سنة من اغتيال والده، كان الصبي يراقب زوج عمته وهو يسلخ ذبيحة عيد الأضحى، فطار السكين فجأة من يد قريبه، وانغرز في عين كمال اليمنى، فأصيب بالعَوَر.أتقن يشار كمال فن الحكي اتقانا مُحكما، فكان تلميذا جيدا لأستاذه الروائي الفرنسي ستندال. تتخلل رواياته خليطا ومزيجا من اللغة التركية، ولغة المروي الشعبي في تعدده وتنوعه. وفي بعض الأحيان تحتل اللغة التركمانية مكانة أساسية في أعماله، مثلما هو الحال في مجموعته القصصية الصادرة بعنوان “الحمى الصفراء”. فقد عرف كيف ينقل معاناة البسطاء من الناس الذين عاش وسطهم على مدى سنوات طويلة كان خلالها راعيا وفلاحا أجيرا في حقول القطن وسائقا للجرار. ويتجلى هذا القرب بواسطة استعمال لغة تركية لصيقة بالثراء اللغوي الشعبي الذي تزخر به منطقة “جوكوروفا” التي ترعرع بين ظهرانيها. كما ظل متمسكا بتلك العلاقة الوطيدة مع الطبيعة، حتى وهو يؤلف رواياته التي تمجد البطل والإنسان سارق النار مثل “بروميثسوس” على قمة “الأولمب”. بدأ رباعيته بسرد أحداث عن تركيا الزراعية، ثم تناول الانتقال المفاجئ إلى المجتمع الصناعي. لقد كان شاهدا على تراجيديا تحول أغاوات زمان إلى ملاك لوسائل الإنتاج، لذلك نجده كثير التحسس من التحديث. إذ يرى أن التحديث أوجد خرابا في عمق المجتمع التركي. فجسد هذه الفكرة في روايته “قصة جزيرة” التي عاد من خلالها لنهاية الحقبة العثمانية وبداية الحرب العالمية الأولى. لقد وضعنا أمام تراجيديا التحديث التي عمّقت جراح البسطاء وزادتهم خضوعا وحروبا وتهجيرا قصريا ومجازر وإبادات وتخريب للطبيعة.نقل يشار كمال الرواية التركية الحديثة من رواية المدينة وشخصية الأرستقراطي، إلى رواية القرية (أو أدب القرية) والبطل القروي الذي يصارع طواحين التسلط. فأبرز صراع الفلاح ضد الآغا الإقطاعي، ومشقة العيش وسط البؤس والضنك الذي يسير جنبا لجنب مع التمرد وروح الملحمة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات