ظلّت هذه الخواطر تراود تفكير زكريا صباح مساء، وليل نهار، إلى أن ذهب ذات يوم إلى معبد يتعبَّد فيه، فوجد فيه مريم عليها السّلام رابضة في محرابها، غارقة في تفكيرها، ورأى بين يديها أمْرًا لم يعتده من قبل، حيث رأى عندها فاكهة الصّيف، والوقت وقت شتاء، فيَنطلق سائلاً إيّاها: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكَ هَذَا} آل عمران:37، فتُجيبه بفطرتها السّليمة، ولسانها الصّادق: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آل عمران:37.عند ذلك أدركت زكريا حالة جديدة، ودخل في تأمّل عميق؛ فلقد أثار هذا الحدث غير العادي في نفسه الحنين إلى الولد، والرّغبة في البنين! حقًّا، لقد أصبح طاعنًا في السن، وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وحال زوجه كذلك، ولكن أليس اللّه- الّذي أبطل لمريم عليها السّلام الأسباب الظّاهرة- بقادر على أن يرزقه ولدًا، يرثه من بعده في علمه وسلوكه؟ ولم يطلّ التّفكير بزكريا كثيرًا، بل توجَّه إلى اللّه بعقل حاضر، وقلب خاشع، ولسان صادق، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِيَّةً طَيِّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} آل عمران:38. وفي موضع آخر يخبر القرآن عن دعائه بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} الأنبياء:89.أظهر زكريا عليه السّلام في دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه، حيث توسَّل إليه سبحانه بضعف بدنه، وبتقدّم سِنِّه، وبما عوّدَه إيّاه من إجابة دعائه في الماضي. وكان زكريا عليه السّلام أكرم على اللّه من أن يَرُدَّ دعوته، وأعزّ عليه من أن يخيّب رجاءه، كيف لا وهو القائل: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر:60، ومن ثمّ جاءته الملائكة مبشّرة إيّاه: {يَا زَكَرِيَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} مريم:7.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات