38serv
إنّ ثمّة فرقًا كبيرًا بين العلم والمعلومة وعدم التّفريق بينهما أدّى ويؤدّي إلى كوارث، بل أزعم أنّ عدم هذا التّفريق هو أحد أهم العوامل الّتي أثّرت سلبًا على مستوى التعليم عندنا، وأثّرت سلبًا على مستوى خريجي مدارسنا وجامعاتنا، بل أثّرت سلبًا على مستوى أساتذتنا ومعلّمينا؛ فلعدم تنبّه أغلب الأساتذة والمعلمين لهذا الفرق تحوّل التعليم إلى عملية سرد للمعلومات، وحشو لرؤوس التلاميذ والطلبة بها، (ومع تقاعس همم التلاميذ والطلبة عن الحفظ آل الأمر إلى مجرد تسويد أوراق بالحبر والمداد!)، وتحوّلت الامتحانات إلى اجترار لهذه المعلومات، والممتحن الّذي يحسن الاجترار يعتبر الطالب المتفوّق، وإن احتال وغشّ وجاء بالمعلومات المطلوبة فهو أيضًا في عِداد المتفوّقين، مادام لم يقبض عليه متلبّسًا!، وبعد الامتحان تذهب هذه المعلومات أدراج الرياح في انتظار امتحان آخر للاجترار!.أمّا أن يفهم أبناؤنا وبناتنا كيف وصل العلماء إلى تلك المعلومة؟ وكيف توظّف؟ وكيف يحلّلونها؟ وكيف ينقدونها؟ وكيف يشرحونها ويصفونها؟ وكيف يقارنون بينها وبين غيرها من المعلومات؟ وكيف يستنبطون علاقاتها بالعلوم الأخرى، وموقعها من علمها؟ إلى غير ذلك من مهارات التفكير، وأساسيات التّعلّم، فهذا أمر لا يعني إلاّ القلّة من الأساتذة والمعلّمين؛ لأنّه عمل مرهق متعب، يحتاج إلى صبر ومصابرة، وإلى بذل وتجديد معلومات ومتابعة الجديد.إنّ التعليم الحقيقي هو أن نعلّم أبناءنا وبناتنا كيف يفكّرون تفكيرًا صحيحًا، هو أن نحفّز أبناءنا وبناتنا على التّفكير، واستعمال عقولهم الّتي أكرمهم الله تعالى بها، هو أن نعلّمهم مزالق التّفكير حتّى يسلموا من سقطات التفكير المعوج، هو أن نربّيهم على التّفكير السّديد المستقيم، الّذي يُضيء لهم دياجير المظلمات، ويعينهم على الانتفاع بالآيات البينات، ذلك أنّه لا ولن ينتفع بالقرآن العظيم إلّا من كان من المتفكّرين، قال الحقّ جلّت صفاته: {.. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وإنّي لعلى يقين أنّ من أهم أسباب قِلّة انتفاعنا بالقرآن الكريم وقِلّة تأثيره في حياتنا وتوجيهنا ضعفَ التّفكير كمًّا وكيّفًا عندنا عمومًا. وكما لا ينتفع بالقرآن الكريم إلّا المتفكّرون فلن يبرّز في العلوم إلّا المتفكّرون.وحتّى تتضح فكرة التّفريق بين العلم والمعلومة (وهي واضحة جدًّا!) أقول: إنّ المعلومات الآن في متناول الجميع بيسر وسهولة، وخاصة مع الوسائل الإلكترونية الحديثة ومع الشبكة العنكبوتية، الّتي تضم مئات الآلاف من الكتب والبحوث والموسوعات بكلّ اللغات وفي جميع التخصّصات، وأيّ إنسان مهما كان عمره، وبلده يستطيع الوصول إليها بمجرد الارتباط بالشبكة، فهل صار النّاس بذلك علماء؟!، طبعًا كلّا، وإنّما العلماء هم الّذين اكتسبوا مهارات التّفكير الّتي تسمَح لهم بالاستفادة من هذه المعلومات، واستنطاقها، والاستنباط منها، وتوظيفها، واكتشاف الجديد بعد ذلك. فليس من عرف أو حفظ أو وصلت إليه معلومة أو معلومات يصير بذلك عالمًا أو مُحصّلا للعلم ما لم يغربلها وينقّحها بتفكيره وعقله. وفي القرآن الكريم تنبيه على هذا المعنى، قال الله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، قال الشّيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله: ”والعقل هنا بمعنى الفهم، أي لا يفهم مغزاها إلّا الّذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام. وفي هذا تعريض بأنّ الّذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول”، فهؤلاء وصلتهم المعلومة وسمعوها، ولكنّهم لم يفهموها ولم يعقلوها، فهم جهلاء العقول؛ لأنّهم لا يتفكّرون ولا يشغّلون عقولهم.وفي السّنّة المشرفّة أيضًا تنبيه على هذا المعنى، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلم قال: ”..ألا ليبلّغ الشّاهدُ الغائبَ، فلعلّ بعضَ من يُبَلَّغُهُ أن يكون أوعى من بعض من سمعه”، وفي رواية أخرى: ”رُبَ مُبَلَّغٍ أَوْعى مِن سامعٍ” رواه البخاري ومسلم، والمبلّغ ناقل للمعلومة ولكن قد يسمعها منه غيره، فيفهمها أحسن منه؛ لأنّه أدقّ منه تفكيرًا ونظرًا، وفي رواية أحمد وأصحاب السنن: ”نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ”. فحفظ المعلومة شيء والفقه والفهم شيء آخر، قال الإمام أبو يوسف القاضي (تلميذ أبي حنيفة) رحمهما الله: سألني الأعمش (هو التابعي الجليل الإمام سليمان بن مهران الأسدي رحمه الله) عن مسألة فأجبته فيها، فقال لي: من أَيْنَ قُلت هذا؟، فقلتُ: لحديثك الَّذِي حدثتناهُ أنت، ثُمَّ ذكرتُ لَهُ الحديث. فقال لي: يا يعقوب، إنّي لأحفظُ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك فما عرفت تأويله حتّى الآن.فالمعلومة كانت عند الإمام الأعمش، الإمام أبو يوسف أخذ المعلومة عنه، لكنّ العلم كان من حظّ أبي يوسف؛ لأنّه فهم ما خفيَ على شيخه لاختلاف مداركهما وعقولهما. وتقريرًا لهذا المعنى قال الإمام الخطيب البغدادي: ”وليعلم أنّ الإكثار من كتب الحديث وروايته لا يصير به الرّجل فقيهًا، وإنّما يتفقّه باستنباط معانيه وإنعام التفكير فيه”، وقال الإمام السرخسي الحنفيّ رحمه الله: ”ومن كان حافظًا للمشروعات من غير إتقان في المعرفة فهو من جملة الرواة”.أظنّ أنّ الفرق بين العلم والمعلومة قد تبيّن نوعًا ما رغم ضيق الحيّز الّذي نتناول فيه هذا الموضوع الكبير، وما هذه الكلمات إلّا تنبيه على هذا الموضوع المهم والخطير، الّذي يغفل عنه عادة، حتّى يستدرك كلّ منّا ما تيسّر له حسب قدرته ومسؤوليته، ونحرص جميعنا على تعليم أبنائنا وبناتنا وتكوينهم تكوينًا سليمًا سديدًا، ولا نضيّع أعمارهم في حشو عقولهم بمعلومات سرعان ما تنسى!.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات