38serv
تحدُث في مجتمعنا -كما في غيره من المجتمعات المعاصرة- تغيّرات عميقة وتحوّلات شديدة وكثيرة، وفي بعضها خيرٌ ولا شكّ، ولكن بعضًا من هذه التّحوّلات تشكلّ خطرًا كبيرًا علينا في هويتنا، وفي استقرارنا وفي استمرارنا وفي بناء مجتمعنا من أساسه. وقد يكون من أخطر هذه التّحوّلات الّتي هي نتاج تأثّر المغلوب بالغالب، وتقليده اللّاواعي لنموذج المتغلّب الحياتي على انسياقه وراء نسقه المعرفي المادي البحت المهيمن، قد يكون من أخطر هذه التّحوّلات تحوّل مجتمعنا من مجتمع تراحميّ إلى مجتمع تعاقديّ!.إنّ الأصل في المجتمع المسلم أن يكون مجتمعًا تراحميّا، فالرّحمة هي أساس الرّسالة الإسلاميّة وهي شعار ورمز البعثة المحمديّة، قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وحين وصف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المجتمع المسلم مبيّنًا خصائصه ومميّزاته الّتي يفارق بها غيره من المجتمعات، قال عليه السّلام: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسد بالسّهر والحمى» رواه البخاري ومسلم. قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: ”الّذي يظهر أنّ (التّراحم، والتّوادد، والتّعاطف) وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف: فأمّا التّراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر. وأمّا التّوادد فالمراد به التّواصل الجالب للمحبّة كالتّزاور والتّهادي. وأمّا التّعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب على الثّوب ليقويه”. فهذه الصّفات الثلاث متداخلة المعنى وإنّما أوردها معطوفة بعضها على بعض لتقوية معناها المراد منها.والحديث صريح في أنّ العلاقات في المجتمع المسلم يجب أن ترتكز على قيم التّراحم وأخلاقها، ممّا يجعل المجتمع المسلم أبعد ما يكون عن العلاقات التعاقدية الّتي تجعل الأفراد يربطون العلاقات فيما بينهم على أسس عقدية تبادلية، يحرص فيها كلّ طرف على مصالحه الشّخصية الضّيقة وربحه المحض، ولا يأبه للطرف الآخر في صغير أو كبير وهذه سمة المجتمعات المادية، ويمثّلها خير تمثيل المجتمعات الغربية المعاصرة الّتي أرهقتها الحداثة وما قبلها وما بعدها.وتوضيحًا لمعنى التّعاقدية الّتي بدأت تقرض المعاني الجميلة في مجتمعنا، يقول الأستاذ عبد الوهاب المسّيري رحمه الله: ”من المصطلحات والمفاهيم الأساسية في المجتمعات العلمانية مصطلح (التّعاقد) والّذي اشتقّ منه مصطلح (التّعاقدية)،... ومعناها أن تتحوّل العلاقات بين البشر من علاقات إنسانية تراحمية لا تخضع تمامًا لحسابات الرّبح والخسارة.. إلى علاقات تعاقدية مضبوطة، أو خاضعة للتّفاوض، وهذا ناجم عن أنّ العالم بأسره يصبح أشبه بالسّوق والمصنع، ومنضبطًا مثلهما تمامًا، وخاليًّا مثلهما من الخصوصيات والمطلقات. ويميّزون في علم الاجتماع الغربيّ المجتمعات التّراحمية التّقليدية الّتي لا تسودها علاقات التّبادل المجرد، ويرتبط أعضاؤها بروابط كونية (القرابة، الجيرة... إلخ). والمجتمعات التّعاقدية وهي المجتمعات الحديثة الّتي تستند إلى تعاقد واضح بين أفراد لا تربطهم أيّ علاقات جوّانيّة”.وهكذا بدل أن يعيش المرء في مجتمع إنساني يرحم بعضه بعضًا يعيش في غابة يستغل فيها القويّ الضّعيفَ، وتقتل فيه المادية بقساوتها روحه وجماله، وتجعله كالذئب الشّرس لا يبحث إلّا عن مصلحته ويفعل أيّ شيء من أجل أن يربح ربحًا ماديّا بحتًا.ولكن التّعاقدية ليست حكرًا على المجتمعات الغربية العلمانية المادية، بل هي تزحف على مجتمعنا شيئًا فشيئًا للأسف الشّديد، بسبب التأثّر والتّقليد وعمليات التّغريب والعلمنة. وإنّ آثارها السّيّئة بادية للعيان منذرة لمَن كان يعقل خطورتها. ولا أظنّ أنّ أحدًا منّا لم تصل آذانه تلك التّعليقات: (النّاس صاروا ماديين.. كلّ واحد صار يحوّس على مصلحتو.. النّاس كلاتهم المادة.. النّاس ماعادش عندهم الرّحمة في قلوبهم... إلخ)، وهي كلّها تعبّر عن شعور مبهم عن هذا التّغيّر الخطير.وإذا أردنا أن نحصر مظاهر هذه التّعاقدية في مجتمعنا لما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، غير أنّ التّمثيل لها يكفي لتحقيق المراد: فمن مظاهر هذه التّعاقدية الزّواج الّذي صار يؤسّس على معايير مادية بالأساس، ثمّ لمّا ينفرط عقده يبرز الصّراع على التّعويضات في المحاكم!. ومن مظاهرها أيضًا تلاشي صلة الرّحم وضعفها شيئًا فشيئًا، حيث صارت تكاليف صلة الرّحم باهظة ثقيلة على كثير من النّاس، ومردودها المادي ضئيل!. ضعف الانخراط في الجمعيات الخيرية مظهر آخر من مظاهر التّعاقدية؛ لأنّ منطق التطوّع يتنافى مع منطق التّعاقد والتّبادل... إلخ.وأخيرًا، لا بدّ أن ينتبه أولئك الّذين يبذلون كلّ جهدهم من أجل تغريب مجتمعنا، والّذين يعملون جاهدين على إعادة تشكيله على أسس غربية، ويقطعون صلته بدينه وهُويته، لا بدّ أن ينتبهوا إلى أنّهم إذا اختاروا التّقليد التام للنّموذج الغربي ونقله بعجره وبجره، فإنّهم لا محالة سينقلون معه كلّ الكوارث والمصائب الّتي تحيق بالمجتمعات الغربية من تفكيك واغتراب وغياب للقيم وتعاقدية مقيتة...*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات