38serv
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”لا يدخل الجنّة مَن كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر”، فقال رجل: إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: ”إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكِبْرُ بَطَر الحقّ وغَمَط النّاس”. هذا الرّجل لمّا سمع أنّه لا يدخل الجنّة مَن كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر خشيَ أن يكون التجمّل بالمُباحات من الكِبْر، فأخبره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ الله جميل في ذاته، جميل في صفاته، جميل في أفعاله.فما هو الكِبْرُ الّذي مَن كان في قلبه مثقال ذرّة منه لا يدخل الجنّة؟ قال: ”بطر الحقّ” أي: دفعه وإنكاره ترفّعًا، و«غمط النّاس” أي: احتقارهم وازدراؤهم، وهذه الحقيقة الّتي جلاّها رسول الله تبيِّنُ لنا ما ابتلينا به، وأنّنا لا نُذْعِن للحقّ ولا نقبَله، بل نجادل بالباطل، ونترفّع عن قَبول الحقّ ونصُدّ عنه، وهي ظاهرة خطيرة، وهي أساس كلّ بلاء، وقد قال الحقّ سبحانه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.يقول ابن القيم رحمه الله: ”إنّ من أعظم التّواضُع أن يتواضع العبد لصولة الحقّ، فيتلقّى سلطان الحقّ بالخضوع له والذلّ والانقياد، والدخول تحت رقّه؛ بحيث يكون الحقّ متصرّفًا فيه تصرّف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خُلُق التّواضع”، وهذا الفاروق رضي الله عنه يكتب لأبي موسى الأشعري: ”ولا يمنعك قضاء قضيتَ به اليوم فراجعتَ فيه نفسك وهُديتَ فيه لرُشدك، أن تُراجِع فيه الحقّ، فإنّ الحقّ قديم ولا يُبطل الحقَّ شيء، وإنّ مراجعة الحقّ خيرٌ من التّمادي في الباطل”.وتحدّث البيان القرآني على لسان موسى عليه السّلام وهو يعترف بخطئه لمّا ذكره به أعدى أعدائه فرعون، قال فرعون لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: عندما قتلتَ القِبطي، فقال موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، فاعترف أنّه فعلها على جهل، ليس كفرانًا بنعمة فرعون، وذلك قبل أن يوحى إليه، ولذلك كان المصطفى صلّى الله عليه وسلّم حينما يقوم اللّيل يفتتح صلاته بقوله: ”اللّهمّ ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السّماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنتَ تحكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لِمَا اختُلِف فيه من الحقّ بإذنك، إنّك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم”.لقد كان من هدي الرّعيل الأوّل التماس الحقّ والرّجوع إليه عند الزّلَل، قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مُزاحِم: ”إنّ الوُلاّة جعلوا العيون على العوام، وإنّي جاعِلُك عيني على نفسي، فإن سَمِعتَ منّي كلمة تربأ بها عنّي، أو فعلاً لا تُحبُّه، فعِظْني وانْهني عنه”، وكلام الأئمة في هذا المجال يطول، قال الشّافعي رحمه الله: ”كلّ مسألة تكلّمتُ فيها بخلاف الكتاب والسُّنّة، فإنّي راجع عن كلامي في حياتي وبعد مماتي”، وقال البخاري رحمه الله: ”بعد أن حفظتُ القرآن جعلتُ أختلف إلى الداخلي وغيره من المحدِّثين، فقال يومًا فيما كان يقرأ للنّاس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، في أحد الأسانيد الّتي يحدّث بها الشّيخ في المجلس، فقلتُ له: إنّ أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلتُ: ارْجِع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه ثمّ خرج، فأظهر صواب الغلام أمام النّاس ورجع للحق”.قال عبد الله بن وهب المصري: كنّا عند مالك فسُئِل عن تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء فلم يَر ذلك، فتركتُ حتّى خفَّ المجلس، فقلتُ: يا إمام إنّ عندنا في ذلك سُنّة، وذكرتُ حديث: ”إذا توضأتَ خلِّلْ أصابع رجليك”، فرأيتُه بعد ذلك يأمر بتخليل الأصابع، ويقول: ما سمعتُ هذا الحديث قطّ إلاّ الآن. فهكذا كانت سُنّة الأئمة وأهل العلم في قَبول الخطأ عند التّنبيه عليه، يعترفون به ويرجعون إليه.والأسباب في قَبول الحقّ والإذعان له متعدّدة؛ فمن ذلك تقوى الله تعالى، فالمرء إذا كان ذا تقوى عرف الحقّ وانقاد إليه، وأن يعرف الإنسان مقدار علمه، وأنّه عُرضة للخطأ، فكلّ بني آدم خطَّاء، وأن يعلم الإنسان أنّ الرّجوع إلى الحقّ فيه أجر وثواب، لمّا حلف أبو بكر الصّدّيق ألاّ يُنفق على مِسطحَ بنِ أُثاثة، عندما خاض مع الخائضين في عرض السّيّدة عائشة، الطّاهرة المُطهّرة، أنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولا يأتل: أي: لا يمتنع، وكان مِسطحُ من قرابة الصّدّيق، فقال: والله لا أنفق عليه بعد الّذي صدر منه، فلمّا نزلت الآية، بكى وقال: بلى والله إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي، ورجع إلى النّفقة الّتي كان يؤدّيها وكفَّر عن يمينه، إذًا فثواب الرّجوع إلى الحقّ هو الّذي يدفع المؤمن إلى الرّجوع، وهي خصلة عظيمة، هنيئًا لمَن رزقها.بعض النّاس يتوهّم أنّ الرّجوع إلى الحقّ ضُعف، وأنّ العودة عن قوله أو فعله الخاطئ اهتزاز في شخصه، ويأتي إبليس ليلبِّس عليه وينفخ فيه فيقول له: إذا تراجعت فأنتَ ضعيف الشّخصية، بينما الحقيقة بخلاف ذلك تمامًا، فإنّ الإنسان ولو توهّم أن تراجعه ضعف أمام الآخرين، فإنّه في الحقيقة رفعة في نظرهم، ويكبُر في أعينهم، ولكن المسألة تحتاج إلى شيء من المجاهدة، قال عبد الغني الأزدي: ”لمّا رددتُ على أبي عبدالله الحاكم النيسابوري الأوهام الّتي في المدخل إلى الصّحيح في كتابه، بعث إليَّ يشكرني ويدعو لي، فعلمتُ أنّه رجل عاقل”.
إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات