38serv
معلوم أنّه لا يوصي إلاّ حكيم، فمقام الوصية مقام نظر وحكمة وتدبير لا يصلح لهّ كلّ النّاس. والحكيم إذا أوصى يعمد إلى ما يراه أهمّ ما يجب الاهتمام به والاعتناء به فيجعله لبّ وصيته وجوهرها، وبقدر علم الموصي وخبرته بالحياة وعلمه تكون قيمة وصيته ويثقل وزنها عند النّاس. فكيف إذا كان الموصي هو ربّ العالمين العليم الحكيم؟ الّذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فليس كمثله شيء في علمه وحكمته وشؤونه كلّها جلّ جلاله.وإنّ من أعظم ما أوصى به الحقّ سبحانه عبيده أن يتّقوه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}، ولم يقل سبحانه: شرعنا للّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو: فرضنا، إنّما قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا}. وكلمة ”وصية” تشعر المتلقي لها بحبّ الموصي له وحرصه على ما ينفعه، والّذين أوتوا الكتاب هنا المراد بهم اليهود والنّصارى ومن قبلهم من الأمم الّتي جاءها المرسلون وأنزلت عليهم الكتب.قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: ”وجعل الأمر بالتّقوى وصية؛ لأنّ الوصية قول فيه أمر بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشّأن في الوصية إيجاز القول؛ لأنّها يقصد منها وعي السّامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله. والتّقوى تجمع الخيرات؛ لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا: ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التّقوى”.ومن تمام الوصية بالتّقوى التّنبيه على ما يلقاه من يضيّع هذه الوصية؛ ولذلك كان ختام الآية: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} بعد أن بُدئت بتأكيد ملكية الله لكلّ شيء إشارة إلى أنّ إيمان المؤمنين وشرك المشركين ونفاق المنافقين وكفر الكافرين يرجع إليهم نفعه أو ضرّه خاصة، ولا يزيد في ملك الله ولا ينقص منه شيئًا، فالله سبحانه في غنى عن خلقه، لا تنفعه تقواهم ولا يضرّه كفرهم.
إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات