38serv
المتأمِّل في التّكاليف الشّرعية يجد أنّها وسائل لتحقيق غايات، حيث ترتبط العبادات بالأخلاق ارتباطًا وثيقًا، فالصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ كلّها وسائل للتّخلّق بمكارم الأخلاق والجمع بين كمال الصّفات الباطنية والظاهرة.العبادات الّتي شرعت في الإسلام واعتبرت أركانًا في الإيمان به ليست طقوسًا مبهمة، وحركات لا معنى لها، فالفرائض الّتي ألزم الإسلام بها كلّ منتسب إليه هي تمارين متكرّرة لتعويد المرء بأن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظلّ مستمسكًا بهذه الأخلاق مهما تغيّرت أمامه الظروف.وإنّ استقراء أدلة الكتاب والسنّة ليبرهن على أنّ العبادة الحقّة لا بدّ أن يكون لها أثر في نفس صاحبها وأخلاقه وسلوكه، فالصّلاة وسيلة، والغاية أن ينتهي الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فمَن لم تنهه صلاته عن ذلك فقد قصرت به الوسيلة عن بلوغ الغاية، يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} العنكبوت:45، والصّيام وسيلة لبلوغ التّقوى، أي الائتمار بما أمر اللّه، والانتهاء عمّا نهى عنه، يقول اللّه جلّ جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:182، والزّكاة ما هي إلاّ نوع من التّكافل الاجتماعي، وإحساس الغني بالفقير وإيجاد التّراحم بين النّاس والتّعاطف، لذا كان المنّ بإعطاء الزّكاة للفقير مُبطلاً لها كما قال الحقّ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} البقرة:264، إذ إنّ الزّكاة لم تصل بصاحبها إلى غايتها وهي الرّحمة والأخوة، والإحساس بأنّ للفقير حقًّا عليه، وأنّه أخ له في الإسلام. وأمّا الصّيام فإنّه كذلك تهذيب للنّفوس وحرمان لها من شهواتها المحظورة ونزواتها قبل أن يكون حرمانًا لهذه النّفوس من الأطعمة والأشربة والشّهوات المباحة. ولأجل هذا ورد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قوله: “مَن لم يدع قول الزّور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. والحجّ الّذي كلّف به المستطيع من المسلمين فإنّه ليس مجرّد رحلة إلى هذه البقاع المقدّسة الّتي تهفو إليها قلوب المؤمنين وفقط، بل هو في أساسه رحلة إيمانية مليئة بمعاني الكمال الإيماني والرّقي الرّوحي والسّمو الأخلاقي، ولهذا قال اللّه عن هذه الشّعيرة: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة:197.وهذه العبادات وإن كانت متباينة في جوهرها ومظهرها، لكنّها تلتقي عند الغاية الّتي رسمها الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: “إنّما بُعِثْت لأتَمّم مكارم الأخلاق”. وإذا تتبّعنا البناء الأخلاقي في القرآن الكريم، بغية رصده ومحاولة استخلاص أسسه ومقوّماته، نجد أنّ عدد آيات الأخلاق كبير جدًّا بالقياس إلى آيات الأحكام، حيث بلغ عددها أربعًا وخمسمائة وألف آية، موزّعة في مختلف سور القرآن الكريم مكية ومدنية، سفرية وحضرية، طويلة وقصيرة، ما يُبيّن أهمية الأخلاق في المنظومة الإسلامية، ومن ثمّ يمكننا فهم الحصر الوارد في الحديث النّبويّ الشّريف: “إنّما بُعِثت لأتّمِّم مكارم الأخلاق”.فإذا لم يستفد المرء من عبادته ما يُزكّي قلبه وينقّي لبّه، ويهذّب باللّه وبالنّاس صلته فقد هوى. ويؤكّد ما نقول حول الصّلة الوثيقة بين العبادة والسّلوك ما جاء في الحديث النّبويّ الشّريف، إذ روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رجلاً قال: “يا رسول اللّه إنّ فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنّها تؤذّي جيرانها بلسانها، قال صلّى اللّه عليه وسلّم: هي في النّار. قالوا يا رسول اللّه: إنّ فلانة تذكر من قلّة صيامها وصلاتها، وأنّها تتصدّق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: “هي في الجنّة”.يقول الإمام الغزالي رحمه اللّه: “فالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ، وما أشبه هذه الطّاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التّطهّر الّذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذه السّجايا الكريمة الّتي ترتبط بها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين اللّه، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكّي قلبه وينقّي لبه، ويهذّب باللّه وبالنّاس صلته فقد هوى”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات