38serv
المساجد بيوت اللّه تعالى، فيها يُذكَر اسمه، ومنها ينادى إلى طاعته وعبادته، وفيها تحيا القلوب، وترق الأرواح، وتسجد الجباه، وتترطّب بالذِّكر الألسنة، وتتراص الصّفوف، وتتوحّد النّفوس.فهذه البيوت أمرنا اللّه أن نراعي ما يجب لها فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: “في هذه الآية مع ما ورد في السّنّة النّبويّة أنّه يُستحبّ التجمّل عند الصّلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، ويستحبّ الطّيب لأنّه من الزّينة، والسّواك لأنّه من تمام ذلك”.فالآية تأمر بستر العورة في الصّلاة، واستعمال التجمّل فيها، ونظافة السّترة من الأدناس والأرجاس، فالواحد منّا إذا ذهب لزيارة أحد من الأصدقاء فضلاً عن الفُضلاء تزيّن لذلك، ولبس من الثّياب أحسنها، ووضع من الطّيب أعطره، وجعل لنفسه من الهيئات أفضلها، فإذا جاء إلى المساجد رأيته يأتي بثياب النّوم أو الرّياضة، أو يأتي في ثياب العمل وقد يكون فيها من القذر وكراهة الرّائحة ما فيها، وبعضهم يأتي بملابس قد كتب عليها من الكلمات ومن الصور ما لا يليق أن يكون في بيت من بيوت اللّه عزّ وجلّ، وربّما وجدت البعض في لباسه ما يُعدّ مخالفًا لستر العورة، إمّا من قصر أو ضيق أو تشبّه أو نحو ذلك، وهذا خلاف الأمر الرّبّاني لأخذ الزّينة اللازمة.كان من هيئة الإمام مالك أنّه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه وتطيَّب، فإذا خرج لم يكن يكلّم أحدًا ولا يكلّمه أحد، حتّى يدخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيُصلّي، ثمّ يشرع فيحدّث النّاس بحديث المصطفى عليه الصّلاة والسّلام؛ هكذا كانوا يعرفون حقّ قدومهم على بيوت اللّه عزّ وجلّ من غير مخيلة ولا رياء ولا مبالغة، ومن غير استهانة وتفريط وعدم مراعاة حُرمة وقَدْر.أخرج الشّيخان عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: “مَن أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته”. فاستنبط علماؤنا من هذا الحديث أنّ آكل هذه الثّمرة قبل الصّلاة تسقط عنه الجماعة، ويجب عليه ألاّ يُصلّي مع النّاس لئلاّ يؤذيهم؛ والمقصود هنا كراهة الرّائحة، وكلّ ما هو من هذا الباب داخل فيه وملحق به، فالمدخّن يؤذي المصلّين وملائكة اللّه المقرّبين برائحته، وقل مثل ذلك عمّن يأتي إلى المسجد بعد أن يفرغ من عمله بعرقه وروائحه الكريهة، أتُرى قد هانت بيوت اللّه عزّ وجلّ في النّفوس حتّى بلغت مثل هذا المبلغ؟ أين الاستشعار والتّعظيم لبيوت اللّه عزّ وجلّ، أين: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّه فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} حتّى ندخلها كأنّما ندخل مكانًا لا قيمة له؟لنستمع إلى ما روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: “أيُّما رجل خرج من بيته يوم الجمعة واغتسل ثمّ أدهن وتطيّب من طيب امرأته، فخرج يريد الصّلاة، ثمّ دخل فصلّى ركعتين ولم يحدّث أحدًا، فأنصت حتّى يفرغ الإمام، ثمّ صلّى مع النّاس غفر اللّه له ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة الأخرى”. قال الحافظ ابن كثير في معرض تفسير قول اللّه تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} قال: “أن تطهّر من الأدناس والأرجاس ولغو الأقوال والأفعال، فإن رفع ذكر اللّه ليس بمجرد تلاوة القرآن وإقام الصّلاة، بل يدخل فيه مثل هذه الأمور”. فنظافة المساجد أمرها مهم عظيم، وأجرها كبير: “عُرِضَت عليّ أجور أمّتي حتّى القذاة يخرجها الرّجل من المسجد”، فإنّك حين تأخذ ولو قشّة صغيرة فَتَقُمَّهَا من المسجد وتطهّره وتنظّفه يكون ذلك من الأعمال الّتي تعرض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهي الأعمال الّتي لها أجر خاص لأمّة سيّدنا محمّد.ورد في الصّحيح أنّ امرأة كانت تقمّ المسجد على عهد رسول اللّه، فلمّا ماتت افتقدها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا علم بموتها قال: “أفلا كنتم آذنتموني حتّى أشهدها”، ثمّ سأل عن قبرها، فذهب وصلّى عليها بعد دفنها.وهناك أمر آخر، وهو الآداب المرعية في داخل المسجد، فكم تسمع من حديث ليس فيه ذِكْر ولا طاعة، بل ربّما كان حديثًا في أودية الدّنيا، أو غيبة أو نميمة، وكم تعلو الضّحكات، حتّى يخيّل إليك أنّك في مقهى أو في الشّارع، يقول السّائب بن يزيد: كنتُ في المسجد فحصبني رجل، فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فقال لي: اذهب فائتني بهذين الرّجلين، وكانَا يتحدّثان بصوت عال، فأتيته بهما، فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من الطّائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا، ترفعان أصواتكما عند رسول اللّه، ألاَ فلنحترم بيوت اللّه، ونؤدّيها حقّها من التّبجيل والاحترام والتّقديس. واللّه وليّ التّوفيق.
إمام مسجد عمر بن الخطاب*بن غازي ـ براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات