38serv
يقول الحق سبحانه على لسان نبيّه يوسف عليه السّلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قال صاحب التحرير والتنوير: أي ما أبرىء نفسي من محاولة هذا الإثم، لأنّ النّفس أمَّارة بالسّوء، وقد أمرتني بالسّوء ولكنّه لم يقع، {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السّوء، بناء على أنّ أمر النفس بالسّوء يبعث على ارتكابه في كلّ الأوقات إلّا وقت رحمة الله عبده، أي رحمته بأن يقيِّض له ما يصرفه عن فعل السّوء، أو يقيض حائلًا بينه وبين فعل السّوء.اعلم رعاك الله أنّ تحسين الظنّ بنفوسنا يجعلنا نقع في آفتين: الأولى: الغفلة عن عيوبنا، فنرى المساوئ محاسن، ونرى السيّئات قُرُبات، ونرى العيوب كمالًا، والذّنوب جمالًا.قال بعض الصّالحين: متى رضيت عن نفسك فاعلم أنّ الله غير راض عنها، ويروي ابن أبي الدنيا في محاسبة النّفس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنّه قال: ”لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتّى يمقت النّاس في جنب الله، ثمّ يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا”، ويروي الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وبيني وبينه جدار يقول: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين! بخٍ! والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنّك.وذكر ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة أنّ الأحنف بن قيس كان عند الانتهاء من الصّلاة والدّعاء يأتي بالمصباح، فيضع أصبعه فيه ثمّ يقول: يا حُنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ هذا الأحنف الّذي قالوا فيه: ما رأينا أحدًا أعظم سُلطانًا على نفسه منه، فما ذا نقول نحن عن حالنا.. وإلى الله المشتكى.أمّا الآفة الثانية، وهي الاهتمام والانشغال بعيوب النّاس، فالعبد إذا حسَّن الظنّ بنفسه فلا مفرّ من أن ينشغل بعيوب غيره، يروي ابن حبّان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”يُبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه”. (القذاة): الوسخ ونحوه ممّا يقع في العين، والمراد العيب والنقيصة.كان أبو بكر رضي الله عنه يكثر من أن يقول: ”اللّهمّ اجعلني عندك من أحسن خلقك، وعند النّاس من أوسط خلقك، وعند نفسي من أحقر خلقك”، فالمرء بعد الاغترار بالنفس يبدأ في التفتيش والتنقيب عن عيوب الآخرين، ومع مرور الوقت يتحوّل هذا الانشغال بعيوب النّاس ليصبح عادة وسجية وخصلة لا ينفك عنها صاحبها، فيستعظم وقوع الصغائر من النّاس، ويغفل عن الكبائر من نفسه، وإن تفطّن لعيبه وجد له ألف عُذر وعُذر، أمّا أن يجد عذرًا واحدًا للآخرين، فتلك مسألة فيها نظر!والأدهى والأخطر أن يتحوّل الانشغال بعيوب النّاس إلى قُربة من القُرَب، وعبادة من العبادات، يسمّيها أصحابها نقدًا، وتقويمًا، وبيانًا، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وهو في الحقيقة غِيبة ومصيبة، وصدق مولانا حين قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، وقال عزّ وجلّ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}.إنّ حسن الظنّ بالنّفس مدخل عظيم من مداخل الشّيطان الرّجيم، به استطاع أن يجعلنا أُسَارى ذنوبنا، وعَوَانِيَ عيوبنا، ترى فما السّبيل إلى الاهتمام بعيوب أنفسنا، وترك الانشغال بعيوب النّاس؟ علينا أوّلًا أن نسأل ربّنا سبحانه أن يُزكّي نفوسنا، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر من أن يقول: ”اللّهُمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجُبن والبُخل والهَرَم وعذاب القبر، اللّهمَّ آت نفسي تَقواها، وزَكِّها أنتَ خير مَن زكّاها، أنت ولِيُّها وموْلاها، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عِلمٍ لا يَنفع، ومن قَلبٍ لا يَخشع، ومِن نفس لا تَشْبَع، ومِن دعوة لا يُستجاب لها”.وأيضًا علينا ألّا نغترّ بطاعتنا مهما بلغت، بل علينا أن نسأل ربّنا القَبول والتّوفيق، فعند الترمذي من حديث أمّنا عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبَهُمْ وَجِلَةٌ}، قلت: أَهُمُ الّذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ”لا يا بنت الصدّيق، ولكنّهم الّذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون، وهم يخافون أن لا يقبَل منهم، أولئك الّذين يُسارعون في الخيرات”.كما أنه يجدر بالمؤمن أن يضع نصب عينيه أنّ قلبه بين أصبعين من أصابع ربّه يقلّبه كيف يشاء، ولن يُوفَّق إلى الثّبات إلّا إذا احتقرَ نفسه، واهتمّ بعيوبها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، أمّا إن عكس الأمر، وصار متصيّدًا لعيوب غيره، فليعلَم أنّ الدائرة تكون عليه.ونختم بما ذُكر عن إبراهيم التيمي رحمه الله قولُه: مثّلت نفسي في الجنّة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثمّ مثلت نفسي في النّار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسُ، أيُّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدّنيا فأعمل صالحًا، قال: فقلتُ لها: فأنتُ في الأمنية فاعملي.
إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات