38serv
إنّ سُنّة الله قاضية أنّ في كلّ أمّة من الأمم، وفي كلّ مجتمع من المجتمعات نخبة تكون هي المؤثّر الأساسي في واقع الأمّة وحال المجتمع، وتمثّل أهل الحلّ والعقد فيه، كما تمثّل البوصلة الّتي توجّه مساره وتهديه سواء السّبيل.
ولا نختلف في أنّ أيّ فئة من فئات المجتمع والأمّة لها دورها ولها أثرها في تشكيل حاضره ومستقبله، لكنّنا نتفق أيضًا أنّ تأثير هذه الفئات مختلف متباين، فلا نسوي بين أثر المسؤول الّذي بيده القرار وبين المواطن العادي الّذي يكون عادة ضحية القرار!، ولا نسويّ بين مسؤولية مَن هو معدود من النّخبة وبين مَن هو مواطن ضعيف يكدح لأجل قوت يومه وقوت أهله. وإن لم يخلُ إنسانٌ عن مسؤولية: "كلُّكُمْ راعٍ، وكلُّكم مسؤُولٌ عن رعيَّتِه" رواه الإمام البخاري وغيره. إلّا أنّ الحقّ والعدل يوجبان أن نحمّل النّخبة مسؤولية أكبر في الإصلاح والإفساد على سواء؛ لأنّ المطالبة والمحاسبة تكونان بحسب التّكليف، والتّكليف يكون بحسب وُسع المكلّف والإمكانات المتاحة له كما نفهم من قول الله جلّ شأنه: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وقوله عزّ شأنه: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}.وربّما إلماحًا لدور النّخبة الحاسم في قضايا الأمّة نجد القرآن الكريم يحدّثنا أكثر عن خاصة أصحاب الأنبياء عليهم السّلام، دون إغفال عامة أتباعهم. كحديثه عن الرِّبِّيّين [أي الجماعات] وحواريي عيسى وأصحاب نبيّنا صلّى الله عليهما وسلّم، قال الحقّ تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين}، {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَه}.كما يحدّثنا عن (الملأ) أصحاب الرّأي والمشورة من أمم الكفر، دون إهمال لعامة الكافرين، يقول الحقّ عزّ شأنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين}، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ...إلخ، فما الملأ هؤلاء إلّا النُّخبة الفاسدة المُتعيّشة على الوضع الفاسد المنحرف، الرّافضة لأيّ تغيير يمسّ مصالحها ويهدّد نفوذها؛ ولهذا اهتمّ القرآن العظيم بإبراز مكانها في الصفّ الأوّل من مواجهة الحقّ والإصلاح والأنبياء والمُصلحين من بعدهم.إنّ النّخبة في كلّ أمّة هي عقلها وقلبها، وكما أنّ «.. في الجسدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فسدَ الجسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القلبُ» رواه مسلم وغيره. فإنّ في كلّ أمّة فئة إذا صلَحَت صلَحت الأمّة كلّها، وإذا فسدَت فسدت الأمّة كلّها، ألَا وهي النّخبة!!.وهذا الّذي يجعلني أؤكّد هنا على النّخبة ودورها الخطير في صنع واقع الأمّة وحاضرها الّذي لا يخفى على أحد، وعلى مستقبلها الّذي يتخوّف كثيرون منه. وإنّه من المؤسف حقًّا أنّنا في كثير من الأحيان نسأل هل عندنا حقّا نخبة؟، فأمام التّبريز المبرمج للسّفلة، والصناعة المستمرّة للقيادات المجتمعية الوهمية، وأمام تطبيع أفراد كُثُر من النّخبة مع الفساد المستشري والرّداءة المتفشية، وأمام انخراط الكثير من أفرادها في الفساد أمام تسويغات (وتبريرات) أَوْهَى من بيت العنكبوت. نسأل حقّا هل عندنا نُخبة؟؟.إنّ من نافلة الكلام بعد هذا أنّ أقول: إنّ المرء لا يُعَدّ من النّخبة بمنصب يتولّاه، ولا بشهادة ينالها، ولا بشهرة تُصنع له أو يكسبها، ولكنّ يُعَدّ منها بكفاءة يثبتها، وبعطاءات يبذلها، وبآثار يتركها. وإلّا فما أنكب الأمّة بنُخبتها إذا فَسدت، وما أتعسها بنُخبة وهمية صنعت صنعًا لتكون سندًا للفاسدين!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات