38serv
يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: “إنّ أفضل أهل كلّ عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عزّ وجلّ. فأفضل الصوّام أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ، وأفضل الحاج أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ، وهكذا سائر الأحوال. وقد ذكر ابن أبي الدُّنيا حديثًا مُرسَلًا في ذلك: «أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئل: أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: “أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ”، قيل: أيّ الجنازة خير؟، قال: “أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ”، قيل: فأيّ المجاهدين خير؟. قال: “أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ”، قيل: فأيّ الحجاج خير؟، قال: “أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ”، قيل: وأيّ العباد خير؟، قال: “أكثرهم ذِكرًا لله عزّ وجلّ”. قال أبو بكر الصّديق رضي الله عنه: “ذهب الذّاكرون بالخير كلّه”.ولا غرابة في هذا، ذلك أنّ الله عزّ وجلّ حدّ لكلّ عبادة قدرًا ورسم لها حدّا إلّا ذِكرُهُ عزّ وجلّ، فقد رغّب عبادَه في الإكثار منه إلى الغاية الّتي يستطيعون بلوغها من غير حدّ ولا قدر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا}، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا..}، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}، {.. وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وهذا أمرٌ عامٌ كما هو واضح حتّى تكون حياة المسلم كلّها طيّبةً نيّرة نديّة بذِكْرِ الله تعالى، فكيف بالعبادات الّتي شُرعت قصدًا وأصلًا لإعلاء ذِكر الله عزّ شأنه؟!. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أيضًا: “إنّ جميع الأعمال إنّما شرعت إقامة لذِكْرِ الله تعالى، والمقصود بها تحصيل ذِكر الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}”.وما دام حديثنا عن الحجّ؛ فلنخصّه بالكلام والقول. فقد ورد حديث صريح في أنّ مناسك الحجّ المقصد الأوّل منها هو الإكثار من ذِكْر الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما جُعل رمي الجمار، والسّعي بين الصّفا والمروة لإقامة ذِكر الله» رواه التّرمذي وغيره. وهذا المقصد الجليل من أعظم ما يجب على الحاج والمعتمر الحرص عليه والتّنافس فيه بالإكثار منه. ومعلوم أنّ مناسك الحجّ والعمرة وأفعالهما كلّها يجب أو يندب فيها ذكر الله تعالى. حتّى أنّ شعار الحجّ والعمرة الّذي هو التّلبية ما هو إلاّ ذِكر جليل لله الجليل سبحانه.ومن حكمة الله البالغة ورحمته الوسيعة وتيسيره الكبير أنّه لم يحدّد أذكارًا معيّنة لمناسك الحجّ إلاّ قليلًا قليلًا، بل في غالب المواضع ترك للعباد أن يذكروه بما شاءوا وسهُل عليهم وفُتِح لهم من الدّعوات والأذكار، وهذا مشيًّا على هدي الإسلام وقاعدته في الواجبات العامة والفرائض الّتي يطالب بها كلّ النّاس: عربيهم وعجميهم، عالمهم وجاهلهم، كبيرهم وصغيرهم، أن تيسر حتّى يكون في مكنتهم جميعًا الإتيان بها، فلا تحدّد فيها أدعية معيّنة وأذكار محدّدة يطالبون بحفظها، فيعسر أو يستحيل على كثير منهم تحقيق ذلك، وإنّما يحدّد القليل الميسور حفظه على الجميع، ويترك ما وراء ذلك لقدرة النّاس وطوقهم، حتّى لو أنّ حاجًا أو معتمرًا اقتصر على ذِكر واحد، ودعاء واحد، يردِّدُه ويكرِّرُه؛ لنال بذلك أجرًا عظيمًا وجزاء كبيرًا. مصداق هذا حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل: «ما تقول في الصّلاة؟». قال: أتشهد، ثمّ أسأل الله الجنّة، وأعوذ به من النّار، أمَا والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ! قال: «حولها ندندن» رواه أصحاب السنن وغيرهما.ومع هذه الأهمية وهذا التّيسير نرى غفلة كبيرة من بعض (أو كثير أو أكثر) الحجاج والمعتمرين عن ذكر الله تعالى في أدائهم المناسك. فالبعض يقصر في التّلبية، فلا يكاد يردّدها إلاّ قليلًا. والبعض يقصر في ذِكر الطّواف، فتراهم في الطّواف يقضون أشواطه في الحديث العام وسقط الكلام، والبعض يقصر في ذِكر السّعي بين الصّفا والمروة فيمضون وقتها في الكلام حول شؤون الحياة والذِّكريات، وأعظم التّقصير وأكبر الغفلة نراها أيّام التّشريق في مخيمات منى، هذه الأيّام الّتي يقول عنها الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، قال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: “لا خلاف أنّ المراد بالذِّكر هاهنا التّكبير”. ولكن قلّ التّكبير -إن لم يكن غاب- عن أيّام منى وفرّط النّاس في هذا الواجب العظيم، بسبب فتاوى شاذة لبعض الدّعاة والعلماء المعاصرين خالفوا بها حكم القرآن وسُنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهديّ سلف الأمّة لقرون متطاولة، فاتّبعوا هذا الشّذوذ واشتغلوا بالتّحليلات السياسية والرياضية عن ذِكر الله تعالى الّذي أمروا به، وجعلت المناسك لإقامته. والأصل أنّ مَن يذهب إلى هاتيك البقاع ينسيه ذِكر الله تعالى ما سواه لا العكس؛ وربّما هذا بعض ما تشير إليه الآية الكريمة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار}.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات