38serv

+ -

بداءةً، حين أقول سقوط النّموذج الغربي، فأنا لا أعني انتهاءه، فما زال للغرب حضارة ودولا ومقوماتٌ كثيرة للبقاء والاستدراك، وإنّما أعني انفضاح هذا النّموذج بانكشاف عَوراته وسوءاته وعُواره وسيّئاته، على مستوىأداء الحكومات الّذي كان مخيّبًا في معظمها إن لم يكن في كلّها.لقد تبيّن للنّاس أنّ لافتة الدول العظمى.. الكبرى.. المتطورة تخفي من ورائها الكثير من الاختلالات والضّعف والقصور، والكثير من السياسات الفاسدة الّتي أعطت الأولوية للتسلّح والتّسلّع على الأمن الغذائي والصّحي للشعوب بسبب سيطرة تجار الحروب وأصحاب رؤوس الأموال على توجيه سياسات هذه الدّول، عن طريق جماعات الضغط والمنظمات الوظيفية (والكارتلات) المتنفّذة. وانفضاحه وانكشافه على مستوى الشعوب والأفراد أيضًا، حيث أظهر الوضع الاستثنائي للحجر المنزلي، سلوكيات منحطة لهذه الشعوب الّتي توصف بأنّها متقدّمة ومتطوّرة.يتقدّم هذه السّلوكيات ارتفاع رهيب لمعدلات العنف المنزلي، العنف ضدّ النساء، العنف ضدّ الأطفال، حتّى أنّ مستشارة ألمانيا العظمى أمرت بتخصيص فنادق للنّساء اللائي تعرضن للعنف!. [وأنت تلاحظ أنّي أضرب المثل بألمانيا الّتي تُعدّ المثال الأعلى لهذه الدّول تطوّرًا وتقدّمًا، فكيف بغيرها من الدّول الّتي تتشابه في هذه الظواهر وإنّما تختلف النسب من بلد إلى بلد؟!].ومن الاختلالات الرهيبة الّتي أبرزها كورونا في هذه المجتمعات، ازدياد نسبة الطّلاق وتفكّك الأسر الّتي هي مفككة أصلًا!، أي بدل أن يكون الحجر المنزلي سببًا لتجديد العلاقات الأسرية وتقويتها كان سببًا في تبديدها وتوهينها!. إلى ظواهر عجيبة غريبة أخرى لعلّ أغربها هي طوابير الأمريكيين أمام متاجر الأسلحة والارتفاع الرهيب لمعدلات شراء الأسلحة والذخائر عندهم تحسبًا لِما سيؤول إليه الوضع!، وبعد هذا لا نعجب حين نسمع المسؤولين الألمان يتحدثون عن ضرورة تطبيع الحياة مع وجود الفيروس والفتح الجزئي للبلاد والرفع التّدريجي، لأنّ المجتمع [مجتمع ألمانيا العظمى طبعًا] على حافة الانهيار، وحين نسمع المسؤولين الأمريكان يتحدثون عن ضرورة رفع القيود ورفع الحجر، لأنّ نسب الانتحار ستزيد وتتضاعف، وحين نسمع الجميع يتحدث على الانهيار الاقتصادي العالمي وعن الخسائر.. وعن.. وعن.. إنّ النموذج الغربي قائم على فلسفات وضعية إلحادية في مجملها تصادم الفطرة الإنسانية، يقول الله تعالى في سورة الرّوم [والروم هم أجداد الغربيين]: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون}، وهذا النموذج يقوم على مرتكزات متعددة ترجع إلى هذه الفلسفات والنظريات، وأبرز هذه المرتكزات الّتي ترجع للأفراد وعلاقاتهم المجتمعية هي: النفعية المحضة، والربحية الصّرفة، والفردية الخالصة، والحرية المطلقة، وأمّا المرتكزات الّتي ترجع إلى الدول والعلاقة الناظمة لها، فهي: منطق القوة وسياسة التّحالفات المصلحية، والاستغلال البغيض للدول الضعيفة، والتّكتلات الإقليمية والإيديولوجية.وكلّ هذه المرتكزات عصف بها فيروس كورونا عصفًا، فالبشرية الآن تعلم جيّدًا أنّ الإنسان لا يمكنه أن يعيش بمفرده ولنفسه فقط، ولا يمكن أن يكون حرّا حرية مطلقة، وأنّ الحياة ليست مادة وربحا فقط، بل الجميع يعلمون أن تصرف كلّ واحد منّا يؤثر في حياة الآخرين، وأنّ نجاة الجميع مرتبط بسلوك الفرد، وسلامة الفرد مرتبطة بسلوك المجموع، وأنّ اعتبار المنفعة الشّخصية فقط تدمير لإنسانية الإنسان، وتفكيك للأسر والمجتمعات. والبشرية تعلّم جيّدًا أنّ التكتلات الّتي يباهون بها إنّما هي تكتلات مصلحية سرعان ما تهتزّ إذا تضاربت مصالحها (موقف الاتحاد الأوربي من إيطاليا وإسبانيا..)، وأنّ صراعات الدول الكبرى في العالم هي صراعات جشع وطمع، وأنّ أقنعة السلام العالمي وحقوق الإنسان والتعاون الدّولي سقطت كلية حين تركت الدّول الكبرى دولًا فريسة للفيروس ولم تقدّم لها مساعدات، وحين تحوّلت هذه الدّول إلى قراصنة تسطو على مساعدات الغير، وحين خلت في صراعات سياسية تستغل أزمة كورونا لتحقيق أهداف استراتيجية إلى غير ذلك من القبائح والفظائع.في مقابل هذا النّموذج المادي المرعب المصادم للفطرة، والمسيطر للأسف على الواقع العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، نجد النموذج الإسلامي الغائب من قبل السقوط الرسمي للخلافة العثمانية بعقود، والقائم أساسًا على مراعاة الحقائق الإيمانية والفطرة البشرية والمبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية، حيث يقول الله تبارك وتعالى في سورة الرّوم دائمًا: ”فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.إنّ النموذج الإسلامي قائم في العلاقات بين الأمم والدول على مرتكزات أساسية هي: الحقّ والعدل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط}، والمساواة والحرية ”ياأيُّها النّاسُ ألاَ إنّ ربّكم واحدٌ، وإنّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فضل لِعربِيٍّ على أعجميٍّ ولا لِعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ ولا أسود على أحمرَ إلاّ بالتّقوى»، ”متى استعبدتُم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”، والتعارف والتعاون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِير}، والسّلم والأمن {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. كما أنّ النّموذج الإسلامي فيما يتعلّق بالأفراد وعلاقاتهم المجتمعية قائم على مرتكزات تُضَادّ كليّة القيم الغربية المادية، فهو يرتكز على: الجماعية والعيش المشترك، فحين تقرأ القرآن تجده يخاطب المسلم دائمًا بصيغة الجماعة حتّى في الواجبات الفردية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..}، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين}، والمساواة والأخوة ”..النّاسُ كلُّهم بَنُو آدمَ وآدمُ خُلق مِن ترابٍ»، ”وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا»، والتّعاون والإيثار {وتعاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوى ولا تعاوَنُوا على الإِثمِ والعُدوَان}، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.وواضح أنّ هذه القيم -قيم الفطرة السليمة- هي ما أهم ما يحتاجه المجتمع الإنساني والدّولي الآن وهو يرزح تحت الثقل والمعنوي لهذا الوباء العالمي، وحتّى ما يأتينا من صور جميلة للتضامن من شعوب الدّول الغربية إنّما هو في الحقيقة رجوع للفطرة وانتصار لها أمام المادية القاسية الّتي غلبتها وغطّتها قبلُ، لأنّ المعلوم من حال الإنسان أنّه يرجع إلى ربّه تعالى وإلى فطرته وإلى إنسانيته عند المضايق والمخاوف والكوارث والشّدائد.وأمام هذه اللفتة المختصرة والصّورة المجتزأة بحسب ما سمح به المقام أجدني أردّد في الختام عنوان كتاب الشيخ الأجل الإمام الكبير أبي الحسن النّدويّ الهنديّ رحمه الله وطيّب ذكره وأعلى قدره: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات