38serv
قال الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاڤة، مؤلف كتاب ”عبد الحميد مهري.. سيرة وعطاء”، في حوار مع ”الخبر”، إن عبد الحميد مهري يمثل بمفرده تجربة متفردة، وذلك بالنظر إلى قدرته النافذة على استشراف المستقبل وتحليل الأحداث بناء على المعطيات المتوفرة في الساحة خلال الفترة التي كان يعيش فيها.تطرقتم في كتابكم ”عبد الحميد مهري.. سيرة وعطاء” إلى الراحل عبد الحميد مهري، ما هي أهم مميزات مسيرة الراحل؟ أعتقد أن أهم ما ميز مسيرة الراحل الكبير عبد الحميد مهري أنه يمثل بمفرده تجربة متفردة، وذلك بالنظر إلى قدرته النافذة على استشراف المستقبل، وتحليل الأحداث بناء على المعطيات المتوفرة في الساحة خلال الفترة التي كان يعيش فيها، فهذا الرجل العظيم يشكل بتجربته المتفردة ظاهرة لن تتكرر، كونه جمع عدة صفات نبيلة قلما تتوفر في شخصية واحدة، وقد جعلته تلك الصفات يتبوأ مكانة مرموقة لدى المهتمين بالفكر الوحدوي العربي، وبفكرة القومية العربية.درستم بالتحليل مقالات الراحل، كيف تصفونها في أسطر؟ إن ما نلاحظه بالنسبة إلى الجوانب الأسلوبية واللغوية في كتابات الأستاذ عبد الحميد مهري، هو أن أسلوبه يتميز باستقامة العبارة، والوضوح، والدقة، والمتأمل في كتاباته يعجب بأسلوبه في الكتابة، ويشعر بلذة في يسره وانتقاله السلس بالقارئ من فكرة إلى أخرى، ومن معنى إلى آخر، إضافة إلى تميز كتاباته بشحنات دلالية عميقة، ومواقف إنسانية نبيلة. لقد عالج الأستاذ مهري شتى القضايا التي لفتت انتباهه بأسلوب خاص، إذ قلما كان متسرعاً للقيام بعمل تحت إلحاح الوقت من أجل أن يقدم مساهماته إلى المطبعة في ساعات محدودة.ركزتم على الفترة التي عاش فيها الراحل بدمشق، لماذا؟ تكتسي هذه المرحلة أهمية استثنائية في حياة عبد الحميد مهري، فقد كرس جهوده في دمشق من أجل التعريف بالقضية الجزائرية العادلة، وبثورة التحرير المظفرة على شتى المستويات.. وبفضل نضاله وكفاحه مع مجموعة من المناضلين الجزائريين، اكتسبت القضية الجزائرية دعماً كبيراً في بلاد الشام على شتى الأصعدة، فقد كان مهري يعرف جيداً مدى الارتباط الوثيق بين الجزائر وسوريا، ويدرك أنه ليس ناتجاً عن الانتماء والبعد القومي فقط، بل إنه بسبب الهجرات الجزائرية الكثيرة نحو بلاد الشام، ما نجم عنه تواجد جالية جزائرية كبيرة جداً في سوريا، تواصل معها عبد الحميد مهري على مختلف المستويات، وأدت دوراً بارزاً وفعالاً على المستويين السياسي والإعلامي من أجل التعبئة لنصرة الثورة الجزائرية. لذلك، نجد أن سوريا سارعت منذ البداية إلى وضع الثورة الجزائرية في مكانها القومي الصحيح، وقادت نضالاً شعبياً ورسمياً واسعاً جداً.وتميزت هذه الفترة في بلاد الشام بكثرة أساليب النضال، وقد مارس الشعب السوري عدة أساليب للتعبير عن تضامنه مع الثورة الجزائرية، ونظمت اجتماعات جماهيرية كبيرة جداً كان يحضرها مهري في القاعات، والميادين العامة، والساحات، والنوادي في دمشق، وفي عدد غير قليل من المدن السورية، وكانت تلقى في هذه الاجتماعات القصائد الشعرية الحماسية والخطب، وكثيراً ما كانت تعقب بمظاهرات شعبية صاخبة. وعندما التقى عبد الحميد مهري بالرئيس السوري شكري القوتلي، يوم 15 مارس1957، أكد على أن سوريا مشتركة مع الجزائر في القتال، وخاطبهم وهو يودعهم: ”إن أردتم سلاحاً أمددناكم بالسلاح، وإن أردتم مالاً عندنا ما نستطيع بذله، وإن أردتم رجالاً فرجال سوريا مستعدون لخوض الوغى إلى جانبكم، أقول هذا جهاراً لكي تسمع فرنسا قولنا، ولكي تعلم أننا قوم جد لا هزل...”.
وقد كانت مقررات مؤتمر العلماء المسلمين بدمشق الذي انعقد في شهر جوان 1957، صدى للجهود الجبارة التي بذلها مهري ورفاقه، وقد صدرت من خلاله قرارات كان لها تأثيرات عميقة على القضية الجزائرية، حيث اعتبر أن العدوان على الجزائر هو عدوان على العرب خاصة، والمسلمين عامة، واستنكروا أشد الاستنكار حرب الإبادة التي تشنها الحكومة الفرنسية على الجزائر، واعتبروا جبهة التحرير حكومة شرعية بإدخالها الجامعة العربية، والعمل على الاعتراف بها دولياً، إضافة إلى قرارات أخرى مهمة جداً. وفي عام 1958، تم الاحتفاء بأسبوع الجزائر في دمشق، وعمت الاحتفالات كل المدن السورية، وفي مدينة دمشق توقف الجميع عن العمل لمدة 5 دقائق. وقد نجحت حملات جمع التبرعات في سوريا نجاحاً كبيراً، وتحدث عدد كبير من الأساتذة السوريين الذين جاءوا إلى الجزائر بعد الاستقلال، وكانوا يجمعون التبرعات للشعب الجزائري في سوريا عن جهود عبد الحميد مهري المتميزة جداً في دمشق، ومن بينهم صديقه الأديب السوري المعروف الذي توفي بالجزائر علي أحمد الجندي الذي ظل يذكّر بمواقف خالدة لمهري ويشيد بالجهود الكبيرة التي قام بها في دمشق.أرجعتم نجاحه في المؤتمر القومي العربي إلى كونه رجلا براغماتيا وواقعيا، كيف نسقط ذلك على مواقفه وأفكاره؟ كان عبد الحميد مهري يحرص من خلال بثه لمواقفه وأفكاره، على تصحيح الأخطاء وتصويب الرؤى بعيداً عن المبالغة، وكان يتجنب تضخيم الأحداث، ويجتهد من أجل تحليل ما يقع من تحولات بدقة، وهذا الأمر تجلى في عدة مواقف لا يتسع المقام للتفصيل فيها هنا. ومن أبرز الرؤى التي قدمها وتؤكد واقعيته، موقفه من الرئيس الراحل هواري بومدين، فعندما كتب شهادته عنه، أشار إلى أن شخصية الرئيس بومدين لا تظهر بكل أبعادها إلا إذا وضعت في السياق التاريخي الذي برزت فيه، ويجب أن تحظى أحداث هذا السياق التاريخي بدراسة تاريخية علمية، وهذا ما لم يتوفر بعد. كما رأى مهري أنه سواء ثبت أو لم يثبت انتماء الرئيس بومدين إلى تنظيم سياسي معيّن، فإن دوره لم يكن بارزاً في الحركة الوطنية والحياة السياسية قبل الثورة، بيد أن المتتبع لأفكاره وتوجهاته لا يجد صعوبة في تبيّن صلتها بالتوجهات الكبرى، والأفكار التي ميّزت الحركة الوطنية منذ نشأتها في العشرينيات من القرن المنصرم.وقد ظهرت رؤى عبد الحميد مهري الواقعية والدقيقة من خلال تحليلاته الضافية التي كان يقترح فيها الحلول الواقعية للخروج من الأزمات التي عرفتها الجزائر، وذلك بتوجيه الرسائل إلى القادة السياسيين، وأذكر في هذا الصدد رسالته الموسومة بـ: ”جذور الأزمة سياسية والحل حتماً سياسي”، التي وجهها سنة 1998 إلى الرئيس الأسبق زروال، بعد يومين من الخطاب الذي أعلن فيه انسحابه، وتنظيم انتخابات رئاسية مسبقة، وقد أشار مهري في رسالته إلى قضايا لها تأثيرات عميقة، ومهمة جداً من بينها: قضية الهوية التي وصفها بأنها نتاج مسار تاريخي عريق، ومن الضروري أن ينبثق من الحوار الوطني مفهوم توافقي يخرج النقاش حول هذه القضية من الجدل الذي يغذي نوعاً من العلاقة التنازعية بين عناصرها المتكاملة: الإسلام، والعربية، والأمازيغية، ويخرجها أيضاً من التحنيط القانوني المصطنع الذي يبعدها عن العمل السياسي، أي عن المجال الذي يوفر لها النماء ومسايرة الحياة.وبالنسبة إلى طبيعة الدولة، رأى عبد الحميد مهري أن المجتمع الجزائري في أغلبيته الساحقة يرفض الدولة العلمانية كما يعرفها الغرب، ولا يقبل الدولة الديمقراطية كما يعرفها الغرب، وهناك ضرورة ملحة لبلورة موقف توافقي للدولة الاجتماعية التي دينها الإسلام، وهذا المفهوم يفتح للشعب الجزائري أبواب الحداثة، دون التنكر للأصالة الحضارية. وفيما يتعلق بالديمقراطية، نبّه مهري إلى أن الاتفاق على اللفظ لا ينبغي أن يحجب عنا المفهوم، والاتفاق على مفهوم موحد للديمقراطية غير ممكن، ولكن من الضروري الاتفاق على جملة من الآليات التي تحمي المجتمع من الديمقراطية الصورية التي يروّج لها، كقدر محتوم على العالم الثالث، فالديمقراطية الصورية هي إما نتيجة أو مقدمة للاستقلال الصوري، فهل يكون لتاريخ الشعب الجزائري وتضحياته القبول بالمفاهيم التي تحول استقلاله الباهظ الثمن إلى استقلال صوري، ولذلك فمصداقية الانتخابات ونزاهتها قضية مركزية بالنسبة لكل مشروع يتصل بالتحول الديمقراطي، وبناء دولة القانون، والمحافظة على الاستقلال، ودعا مهري إلى وضع سياسة وطنية للغات تنسجم مع مفهوم الهوية الوطنية، وتكرس الانفتاح على العالم، دون الذوبان في الغير.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات