38serv

+ -

 يوم 2014.11.15 أرسل لي صديقي المثقف الأستاذ نذير مصمودي نسخة من آخر مؤلفاته “متى يدخل المسلمون في الإسلام؟” هدية منه مشفوعة بكلمة مؤثرة بخطه الجميل جاء فيها بالحرف: “إلى أخي وصديقي ورفيق دربي الشيخ أبوجرة سلطاني الذي تحمّلني 35 سنة، برحابة صدر ونفس كبيرة، لقد أذيتك كثيرا بصراحتي، لكنني لم أخنك لحظة واحدة رغم “الترغيب.. والترهيب” ستبقى صديقي وأخي وسأبقى ناصحا وصريحا.. تعلمت منك الكثير ومازلت.. أحبك” أخوكم النذير مصمودي.تصفّحت الكتاب، ولم أقرأه قراءة نقدية جادة وواعية، لأنه سبق لنا أن تناقشنا حول تجديد الفكر الديني والخطاب الإسلامي وتناولنا موضوع المفاهيم، وكان الأخ مصمودي، رحمه الله، يرى أن علاج مثل هذه المفاهيم الموروثة لا يمكن أن يتحقق إلاّ عن طريق الصدمة الفكرية، وهي الطريقة التي اعتمدها في جميع كتاباته الورقية والصحفية وعلى موقعه من تغريدات التواصل الاجتماعي.اكتشفت الشيخ المصمودي – كما كان يدعوه شباب الصحوة الإسلامية- سنة 1978 عن طريق يومية كانت تصدر بالشرق الجزائري، فقد كان يعمل مراسلا لها وكنت أكتب فيها مقالات أسبوعية، ولفت انتباهي أسلوبه المميز في الكتابة وجرأته على قول الحقيقة عارية، فانتقلت إلى بسكرة بحثا عنه، والتقينا في بلدية سيدي عقبة داخل استوديو للتصوير كان مملوكا له، وتناولنا الحديث عن واقع الجزائر وإرهاصات صحوة إسلامية لم تكن معالمها قد اتضحت بعد، ووجدته مملوء بالحماسة ومفعما بالاندفاع وكأنه كان ينتظرني من زمن بعيد. وتوالت اللقاءات والزيارات والمكالمات الهاتفية والنقاشات الفكرية والكتابات الصحفية.. حتى كان لقاء مباركا جمعنا في بيته مع ثلة قليلة من شباب الصحوة صيف سنة 1979 خرجنا منه بفكرتين طموحتين وفيهما كثير من المجازفة والغرور في زمن الحزب الواحد.1- إصدار سلسلة من الكتيبات تحت عنوان “أوراق إسلامية” صدر منها 15 كتيبا بين 79-1988.2- التصدي لفساد نظام الحزب الواحد بجمع الشباب حول “الفكرة الإسلامية” وقد جاءت الثورة الإيرانية في نفس السنة لتفتح الطريق أمام ما صار يعرف لاحقا باسم “الإسلام السياسي”.كان أول كتابين من سلسلة أوراق إسلامية سنة 1980 كتاب “حجاب المرأة المسلمة” للفقيد النذير مصمودي وكتاب “الطريق إلى الله” للطالب أبوجرة سلطاني، ثم توالت الإصدارات بعد ذلك ولاقت رواجا واسعا في أوساط شباب الصحوة الإسلامية على نحو كان الكتيّب يطبع في السنة الواحدة ثلاث طبعات (طبع من كتاب: “قل للمؤمنات” 60 ألف نسخة نفدت كلها سنة 1982) وصار الشيخ مصمودي اسما لامعا في ساحة الصحوة الإسلامية يحاضر في الجامعات والمعاهد عبر كامل التراب الوطني وتنتظره جموع المصلين يوم الجمعة بمسجد بدر ببسكرة، حيث كانت خطبه تهز القلوب الجامدة، فقد حباه الله بقدرة خارقة على تخيّر الآيات والأحاديث والأشعار المناسبة لكل موضوع يتناوله حتى ليخيّل للسامع أنه يقرأ من كتاب، كما كان يتمتع بصوت جهوري صداح لا يحتاج إلى مكبرات صوت إلاّ لإسماع الآلاف الذين كانوا يشدون رحالهم من الولايات المجاورة لأخذ “زاد الجمعة”.تسابق الشيخان نحناح (رحمه الله) وجاب الله (حفظه الله) على الظفر به في تنظيمهما ولكنه كان يقول لهما ممازحا: أنا من “جماعة أخي أبوجرة” !؟! ولذلك لما انتسبت إلى تنظيم الشيخ نحناح رسميا سنة 1985 خلال أداء واجب الخدمة الوطنية بمدرسة ضباط الاحتياط بالبليدة، صرت وأخي النذير “جنديين” للدعوة في الشرق الجزائري لصالح التنظيم السري الذي كان يشرف عليه فقيد هذه الأمة الشيخ الذبيح بوسليماني (رحمه الله) الذي كان أشار على النذير بالتوجه إلى البوسنة في عمل إغاثي إنساني واسع للمسلمين هناك خلال محنتهم مع الصرب (في حرب الإبادة العرقية) ولما استقرّت الأوضاع شدّ رحاله إلى العاصمة النمساوية (فيينا) حيث كان لي معه موعد آخر، يطول الحديث عنه في هذه الكلمة العاطفية لرجل كان بالنسبة لي أكثر من مجرد صديق أو مناضل رفض الخضوع لجميع الإغراءات ترغيبا وترهيبا!؟!في سنة 1989 اكتشفت في شخصية أخي نذير طاقة أخرى لم أكن أعرفها فيه من قبل، وهي القدرة الفائقة على نسج العلاقات بسرعة لا يقدر عليها إلاّ من أتاه الله هذه الملكة النادرة، فخلال عملي معه رئيس تحرير لمجلة “التضامن” التي صدر منها 17 عددا بين بداية اعتماد الأحزاب السياسية وحل الجبهة الإسلامية للإنقاذ 89-1992 استطاع فقيد القلم الشجاع أن ينسج للمجلة من العلاقات، في الداخل والخارج، ما لا يخطر على بال، وكان يمكن أن تصبح المجلة الشهرية الأولى في الجزائر لولا تشتت طاقمها مع بداية المأساة الوطنية وإقامة مديرها الفقيد مصمودي بالنمسا وتعرض رئيس تحريرها إلى محاولة اغتيال.. ودخول الجزائر مرحلة الفوضى والجنون. ولكن في خندقين متجاورين، ماذا عساني أقول لأخ عاش مدافعا عن حرية الفكر إلى درجة دفعته إلى إعادة استدعاء البديهيات لمناقشتها في ضوء السؤال المحرج والجواب الصريح.. متى يدخلون المسلمون في الإسلام؟ وقد دفع ثمن هذا النضال، فلم يغنم ولم يسلم، ولكنه مات بسكتة قلبية كما يموت كل صاحب قلب حي ليحيا من بعده من لا قلوب لهم يلوكون أحاديث عن حرية لا يؤمنون بها ويركلون نهايات رجل شجاع كما يركل الجبناء جثث الشهداء بعد أن يتأكدوا بأن أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه لم يصبه سيف مبارز ولا رمح منازل ولا سهم رائش..إنما بضربة من يد عبد آبق استأجرته امرأة عجز أخوها وأبوها وعمها وزوجها عن مقارعة الأحرار، فانتدبت لهم العبيد لعلمها أن الحرّ لا ينازل عبدا ولو كان يتوشح رمحا مسنونا.عشت صادقا مع نفسك ووفيا لقرائك ومنافحا عن فكرتك ومؤمنا برسالتك في الحياة ومتحرر من كل الارتباطات الحزبية والإدارية.. فإذا لم تترك وراءك حزبا يواصل مسيرتك، فقد تركت اسما كبيرا يسمونه النذير مصمودي، فرحمك الله يا أبا خالد، فقد أديت ما عليك وزيادة.صديقك الوفي: أبوجرة سلطانيالجزائر: 11/01/2015

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات