38serv
إنّ الاستعجال كثيرًا ما يجرّ على الإنسان الوبال؛ لأنّ الاستعجال يدفع المرء للقيام بالعمل واتّخاذ القرار من غير نظر وتبصّر، ولا تأمّل في العواقب والمآل. والخطير في أمره - أي الاستعجال - أنّه يستند إلى جِبّلة الإنسان الّتي فُطر عليها، وطبيعته الّتي غرست فيه، فقد قال الحقّ سبحانه: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} الأنبياء:37، وقال جلّ في علاه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} الإسراء:11.والآيتان واضحتان في معناهما ودلالتهما، ويزيدهما وضوحًا قول العلامة أبو زهرة رحمه الله: “العَجَل هو العَجَلة والتّسرّع والسّبق إلى مخاطر الأمور من غير تفكير، ومعنى أنّه خُلق مِنْ عَجَلٍ، المبالغة في عجلته كما يقال: خُلق من كرم مبالغة في الكرم... وقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} نظيرُه ومؤدّاه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}، وهذا التّعبير فيه تأكيد في عجلته، وكأنَّه يكون من عجلة، وهذا كناية عن استعجاله للأمور، وفيه مجاز بتشبيه في عجلته وكونها طبعًا له غير منفصل عن ذاته بأنّه خلق منها طبعًا له لَا تنفصل عنه”. فالإنسان عجول بطبعه الّذي يزيّن له استعجاله في الأمور، ويوهمه أنّ التّريّث خلاف الحزم والعزم.وتلافيًّا لِمّا قد يترتّب على الاستعجال من آثار سلبية يؤكّد القرآن العظيم على تربية المسلم على فقه سنن الله في خلقه، ومنها بل من أهمّها سُنّة التدرّج، وهذا يتجلّى في مواطن كثيرة منه. والملاحظ على المواطن الّتي يؤكّد فيها القرآن الكريم على سُنّة التدرّج أنّها مواطن تتصل بالإنسان مباشرة، كخلق السّموات والأرض، وكخلق الإنسان نفسه، وكإنزال القرآن الجليل وإقرار التّشريع السّمح. وهذه الأمثلة توضّح ذلك وتجلّيه.فمثلًا: كلام القرآن على خلق السّموات والأرض يجلّي بوضوح سُنّة التدرّج حيث يقول الله تقدّست أسماؤه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ..} فصلت:9-11، ويقول الحقّ جلّ شأنه أيضًا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الأعراف:54. وهذا شأن كلّ مخلوق دون السّموات والأرض، فكلّ مخلوق له وعاء زمني تخلّق فيه، وأجل محدود ينتهي إليه. قال التّابعي الشّهيد سعيد بن جُبَير رحمه الله في معنى هذه الآية: “كان الله قادرا على أن يخلق السّموات والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة، فخلقهنّ في ستة أيام تعليمًا لخلقه التّثبّت والتّأنّي في الأمور”. وقال الإمام الرّازيّ رحمه الله في تفسيرها: “.. أنّه تعالى إنّما خلق العالم في ستة أيّام؛ ليعلّم عباده الرّفق في الأمور والصّبر فيها”.ومثلا: كلام القرآن على مراحل خلق الإنسان يؤكّد سنّة التّدرّج في الكون والحياة ويقرّرها، حيث يبيّن أنّ خلقَ اللهِ القديرِ المقتدرِ الإنسانَ يكون مرحلة بعد مرحلة، وطَورًا بعد طور حتّى ميلاده، لينطلق في مراحل أخرى حتّى بلوغه نهايته بعد مروره على أطوار الحياة المختلفة بتدرّج وترقٍّ؛ وهذا البيان جاء لحِكم بالغة منها غرس سُنّة التّدرّج في وجدان المسلم؛ وذلك مثل قوله عزّ شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} الحجّ:5، وقوله جلّت صفاته: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون}، والحقيقة أنّ هذا أمر يدركه الإنسان من نفسه، ويعلم يقينًا أنّه سيتدرّج في الحياة مرورًا بأطوارها حتّى يبلغ أشدّه، ولا يمكن ولا يعقل أنّ يسعى ليبلغ مرحلة عمرية دون المرور بما هو دونها، ولكنّ العجيب أنّه في شؤون الحياة العامة يذهل ويغفل ويستعجل الأمور قبل إبّانها وأوانها، دون مرور على مراحلها الطّبيعيّة والضّروريّة!!.ومثلًا: كلام القرآن على إنزال القرآن ينبّه المسلم على أهمية مراعاة سنّة التّدرّج في حياته لتحقيق غاياته ومبتغاه، يقول الحقّ جلّ ذكره: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلَا} الإسراء:106.وتبع هذا التّدرّج في تشريع الأحكام، والتّدرّج في تربية الصّحابة على معاني الإيمان والإسلام شيئًا، والتّدرّج في إصلاح المجتمع العربي الأوّل ونقله تدريجيًّا من حضيض الجاهلية إلى سموّ الإسلام. وهكذا يكون الإصلاح الّذي يجيء بالخير والصّلاح، أمّا استعجال الثمار قبل بدوِّ صلاحها فهو غالبًا ما يؤدّي إلى عكس المرجوّ والمنتظر منه. ولكن في زمن السّرعة هذا -كما يُسمّى- صار أغلب النّاس يحسبون أنّ كلّ شيء يمكن أن يحدث بسرعة، وكلّ أمر يمكن أن يتمّ بسرعة، وغفلوا عن أنّ سنن الله تعالى غلّابة، وأنّها لا تحابي أحدًا، وأنّ حكمها قاهر. ومن هذه السّنن الّتي يجب أن يُراعيها النّاس في حياتهم فيما جلّ أو حقر من شؤونها: سُنّة التّدرّج... رغم أنّ ممّا حفظناه جميعًا ونحن صغار: من تعجّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه!!!*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات