38serv
قضت حكمةَ الله تعالى في خلقه أن يبتليهم امتحانًا لهم أو عقابًا، امتحانًا لينظر ما يصنعون، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، وقد يبتليهم عقابًا لهم بسبب مقارفتهم للذّنوب والمعاصي، فيظهر أثر ذلك بما يُجريه سبحانه وتعالى في الأرض من أنواع البلايا والمحن، فكلّ ذلك إنّما يحصل بشؤم معصية بني آدم، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.إنّ من أنواع الابتلاء الّذي يُوقعه الله تعالى على عباده؛ جدبُ الأرض، وانحباس القطر من السّماء. وقد بيَّن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ من أعظم الذّنوب الّتي تحبس المطر هي منع الزّكاة وعدم إخراجها لمستحقّيها، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا”، وقد يكون انقطاع المطر بسبب عموم الذّنوب والمعاصي الّتي تقع من بني آدم، قال أبو هريرة رضي الله عنه: “إنّ الحُبارى لَتموتُ في وَكْرها من ظلم الظّالم”، والحبارى إنّما تموت بسبب آثار انقطاع المطر من جدب الأرض وقلّة الماء والكلأ. وقال مجاهد: (إنّ البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدّت السَّنة، وأمسك المطر؛ وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم). وقال أبو إسحاق الشيرازي: (إنّ المظالم والمعاصي تمنع المطر والدليل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: “إِذَا بُخِسَ الْمِكْيَالُ حُبِسَ الْقَطْرُ”).إنّ كلّ نقص يصيب النّاس في علومهم وأعمالهم، وقلوبهم وأبدانهم وتدبيرهم وأحوالهم وأشيائهم وممتلكاتهم، سببه والله الذّنوب والمعاصي: يقول تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوْ عَن كَثِيرٍ}.وما ابتُليَ المسلمون اليوم بقلّة الأمار وغَوْر المياه، وانتشار الجدب والقحط، وغلبة الجفاف والمجاعة والفقر في بقاع كثيرة من العالم إلّا بسبب ذنوبهم، وانتشار المعاصي بينهم، وعموم المنكرات في مجتمعاتهم، ولن يُرفَع ما هم فيه من شدّة وبلاء وجدب وقحط وعناء إلّا بإقبالهم على ربّهم، وعودتهم إلى دينهم، وكثرة توبتهم واستغفارهم لربّهم من تقصيرهم.فالذّنوب ما حلَّت في قلوب إلّا أظلمتها، ولا في نفوس إلّا أفسدتها، ولا في ديار إلّا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلّا دمّرتها، يقول ابن القيم: “وهل في الدّنيا والآخرة شرّ وبلاء إلّا وسببه الذّنوب والمعاصي؟!”.وإنّ من أسباب منع القطر من السّماء غفلة العباد عن طاعة ربّهم، وقسوة قلوبهم بما ران عليها من الذّنوب والمعاصي، وتساهلهم بتحقيق الإيمان والتّقوى، وتقصيرهم في أداء الصّلاة وإيتاء الزّكاة، يقول صلّى الله عليه وسلّم: “لم ينقُص قوم المكيال والميزان إلّا أُخذوا بالسّنين وشدّة المؤونة وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا مُنعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا”.وإنّ من الأسباب لمنع القطر إعراضَ كثير من النّاس عن التّوبة إلى ربّهم واستغفاره، وهما من أعظم أسباب نزول الغيث، يقول تعالى عن نوح عليه السّلام: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}، وقد خرج عمر رضي الله عنه للاستسقاء فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: “لقد طلبت الغيث بمجاديح السّماء الّتي يُستنزل بها المطر”.إنّه ما نزل بلاءُ إلّا بذنب، ولا كُشف إلّا بتوبة، وإنّ ذنوبنا كثيرة وعظيمة، وإنّ تقصيرنا شديد وكبير، وإنّ شؤم الذّنوب والمعاصي لعظيم وخطير، الصّلاة قد طاش ميزانها عند كثير من النّاس وهي ثاني أركان الإسلام؟! والزّكاة المفروضة قد بخل بها كثير من النّاس وألهاهم التّكاثر والتّنافس في الأموال عن إخراج حقّ الله فيها؟!وهذه الموبقات والجرائم من القتل والزّنا والسّرقة والرّبا وشرب الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات الموجودة في المجتمع؟! وظلم العباد وغشّهم ومطلهم حقوقهم وبخسهم في المكاييل والموازين والمقاييس منتشر بين صفوف كثير من المسلمين وفي أسواقهم ومعاملاتهم؟!فعلينا البدار البدار بالتّوبة وتقوى الله، ولنعلم أنّه ليس طلب الغيث (عن طريق صلاة الاستسقاء فقط) بمجرّد القلوب الغافلة، والعقول اللاهية، وإنّما يتطلّب تجديد العهد مع الله، وفتح صفحة جديدة ملؤها الطّاعة، بعيدًا عن المعاصي والمحرّمات، وإصلاحًا شاملًا في كلّ مرافق الحياة، فحاجة الأمّة إلى الاستغاثة العملية التطبيقية لا تقلّ أهمية عن استغاثتها القولية، وإنّه مع كلّ هذا التّقصير فعفو الله واسع، ورحمته وسعت كلّ شيء، وعفوه عمَّ كلّ التّائبين، فما ضاق أمر إلّا جعل الله منه مخرجًا، ولا عظم خطب إلّا جعل الله معه فرجًا، ها هو مولانا جلّ وعلا يدعونا للتّوبة والإنابة، والدّعاء والاستغفار {قُلْ يَا عِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللهِ إِنَّ ٱللهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}. اللّهمّ إنّا نستغفرك إنّك كُنتَ غفّارًا، اللّهمّ أسقنا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين، اللّهمَّ اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدَك الميت.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات