38serv
الاستدمار (=الاستعمار) المعهود هو احتلال دولة لدولة أو لدول أخرى بالطّغيان المسلّح والجبروت العسكريّ. والأوربيون هم المختصّون في هذا الظّلم والوحشيّة، وإن شاركتهم بعض الأمم في عاره وشناره. ولكنّ الاستعمار في الحقيقة أنواع، أخطرها هو الاستعمار المعنويّ: استعمار النّفوس، واستعمار العقول، واستعمار الألسن. ومثلها في الخطورة استعمار الثّقافة، واستعمار التّاريخ، واستعمار العلم! والاستعمار -مهما كان نوعه- كلّه شرّ وفساد وظلم وجرائم ضدّ الإنسانيّة!إنّ الأوربيين والغربيين لم يكتفوا باستعمار الدّول ماديّا وعسكريّا، بل استعمروا ثقافتها بكلّ مكوّناتها، واستعمروا التاريخ البشريّ، واستعمروا العلم!، سطوا على ثقافات الأمم فسمّموها! وسطوا على تاريخ الأمم فحرّفوه! وسطوا على العلم البشري فأمّموه! انطلاقًا من نظرتهم العنصرية الفوقية، ورؤيتهم الاستكبارية، النّاتجة عن اعتقاداتهم الضّالة بتفوّق (الجنس الأبيض) على باقي الأجناس، هذا التّفوق الموهوم الّذي أباح لهم استعمار ما يشاؤون من الشّعوب، بل أباح لهم تقسيم الدّول والأمم بينهم في اتفاقيات معلنة! وهذا التّفوّق الموهوم هو الّذي دفعهم لاستعمار التاريخ، حيث حرّفوا التاريخ بأن جعلوا تاريخ البشر هو تاريخ أوربا؟ فإذا عاشت أوربا في انحطاط مخزٍ من الجهل والبهيميّة، فالبشرية تعيش عصر الظلمات والقرون الوسطى غصبًا عنها!، ولو أنّ البشر آنذاك كانوا في حضارة إنسانية زاهية مشرقة! وحين تستفيق أوربا وتبدأ خطواتها الأولى نحو النهضة فالعالم قد دخل عصر الأنوار! وإن كان النّور لم يغب عن العالم قطّ! وإنّما غاب عنهم فقط! وأكثر من ذلك أنّ القارتين الأمريكيتين وكثيرًا من مناطق العالم كانت موجودة آهلةً فعلًا منذ ملايين السّنين، ولكن مادام أنّ الأوربيين لم يعرفوها فهي إذن كانت مجهولة حتّى اكتشفها الإنسان الأبيض، واستعمرها واستغلّها وأفسدها! وأباد أكثر أهلها، حينذاك صارت معروفة!! ولم يستحيوا فسمّوا موجات استعمارهم تلك بعصر الاكتشافات...! وهكذا العلم وتاريخ العلم، فقد حرّفوه وأمّموه وسطوا على ثمرات عقول الأمم البشرية، ونسبوا كلّ الاكتشافات العلمية وكلّ الاختراعات إلى علماء أوربيين، وإن عرف النّاس تلك الحقائق، وشاهدوا تلك الاختراعات قبل أن يولد العلماء الأوربيون الّذين نسبت إليهم بعقود أو قرون!.إنّ السّطو على الحقيقة والتّلويث المتعمّد الّذي اقترفه الأوربيون في حقّ تراث الإنسانية سيحتاج لجهود جبّارة وعقود من الزّمن لتطهيره منه، وردّ الأمور إلى نصابها، وإرجاع الحقوق إلى أهلها، وإعادة الحقيقة لنصاعتها!ثارت هذه الأفكار وغيرها في ذهني عند مطالعتي لكتاب هام، بذل فيه مؤلّفه (وهو باحث وأكاديمي كويتي) الجهد الكبير، وامتلك شجاعةً أدبية كبيرة لإخراجه للنّاس؛ لأنّه طرق موضوعًا جادًا حسّاسًا، قد يجلب عليه نقمة كثير من الأكاديميين، وخاصة الأميين منهم!، وهو غريب نوعًا ما؛ لأنّه يتحدّث عن ظاهرة نشأت من اجتماع أمرين متناقضين: الأميّة والأكاديمية! هذا الكتاب هو كتاب (الأميّة الأكاديمية في الفضاء الجامعيّ العربيّ، مُكاشفات نقديّة في الجوانب الخفيّة للحياة الجامعيّة)، أليس غريبًا أن يتحدّث أحدهم عن الأميّة عند الأكاديميين؟!، وعن الأميّة في الجامعة؟! ولكنّها حقيقة معيشة ومسكوت عنها!إنّ أمية الأكاديميين تختلف عن أمية عامة النّاس، فهي أميّة ناتجة عن التّقليد الّذي يقتل الإبداع الفكريّ، والأفق الضّيّق الّذي يميت البحث العلميّ، وهذا ما يعانيه المجتمع الأكاديمي عندنا، فالتّعليم صار تلقينًا آليًّا ميّتًا قاتلًا، والبحث العلمي صار تكرارًا أشبه بالاجترار، والنّزاهة والأخلاق العلمية تُقرض قرضًا، والسّطحية تسيطر شيئًا فشيئًا... الخ الموبقات المعرفية. ومن أبرز السّوءات العلمية الّتي فضحت عورات كثير من الأكاديميين: الإذعان للمسلّمات والشّائعات العلمية! فهذا هو الباب الّذي ينشأ منه الجمود ويتغذّى عليه! وهذا هو الفيروس الّذي أصيب به كثير من الأكاديميين عندنا! وخاصة المسلّمات الّتي قرّرها الغربيون قديمًا وحديثًا! فمناهجهم العلمية هي وفقط المناهج الصّحيحة!، الّتي يجب تقليدها والويل لمن حاد عنها! والحقائق الّتي يكتبونها ولو كانت مجرّد فرضيات ونظريات هي الحقّ! ولا ينتقدها إلّا مغرور جاهل! وبذلك تحوّل مجتمعنا الأكاديميُّ إلى مجتمع استهلاكيٍّ كمجتمعنا العادي تمامًا!إنّ الّذي جرّني لهذا الحديث هو أنّي وجدتُ الكاتب -وهو يتحدّث عن الأميّة الأكاديمية- لم يسلم من بعض أعراضها ولم يتعافَ من شرّ أمراضها! وهو الإذعان للشّائعات والادّعاءات الّتي شوّه بها الغربيون تاريخ العلم، فالكاتب يصدر في نظرته للعلم وتطوّره وتاريخه عن نظرة غربية بحتة!، فمثلًا نجده يقول (ص 35): “حتّى أنّ المؤرّخين يرون أنّ الحضارة الحديثة ما كان لها أن تنهض لولا العودة إلى فضائل أرسطو المعرفيّة والفلسفية، وهي الفضائل الّتي أدّى انقطاعها -بإغلاق مدرسة أرسطو وأفلاطون- إلى سقوط الإنسانيّة في العمى والضّلال القروسطي”.وهذه هي الأميّة الأكاديمية في أبهى صورها! فالقرون الوسطى كما يسمّونها كانت مظلمة في أوربا فقط! أمّا العالم فكان منيرًا ساطعًا بعلم الحضارة الإسلامية، والّذي لَمّا غمر أوربا قامت نهضتها، وليس برجوعها لفضائل أرسطو! بل لم تنهض أوربا إلّا بتحرّرها من يبوسة المنطق الأرسطيّ بفضل نقد ديكارت وغيره له، واستبداله بالمنطق الرّياضيّ والمنهج العلمي التّطبيقيّ الّذي أخذوه عن علمائنا.هل العلم بريء وحقّ مطلق؟ هذا ما يظنّه عوام النّاس، والأميّون الأكاديميون! والحقّ أنّ العلم لا يخلو من التّحيّزات، وعدم الموضوعية، وأنّه يتأثّر بعقائد وأفكار مُنتجيه!، ويتأثّر أكثر بتوجّهات مُمَوّلي الجامعات ومراكز البحث والبحوث! هذا أمرٌ ما عاد خافيًّا عن أحد، اللّهمّ إلّا الأميّون الأكاديميون! إنّ اللاّ موضوعية والتحيّز المعرفيّ الّذي أفسد العلم هو ما يسمّيه القرآن الحكيم (إتّباع الهوى)، ويجعله مضادًّا للعلم، يقول الحقّ تبارك وتعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِين}، ويجعل أمارة تلوّث العلم بالأهواء والتّحيّزات أن يتسبّب في فساد الأرض والجوّ وما فيهما، قال الحقّ سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}، وهذا ما أوصلنا إليه العلم الغربي الملحد، من فساد عمّ البيئة وطمّ. ذلك أنّ علم الغربيين ملوّث بأهواء كثيرة وتحيّزات عديدة منها: نظرتهم العنصريّة للبشريّة واعتقادهم تفوّق العِرق الأبيض، وتأثير الأموال الرّأسمالية الجشعة في توجّه الجامعات والباحثين.. ولن نخرج من الأميّة الأكاديمية إلّا باستيعاب هذه النّقطة وفهمها، والتّحرّر من أهواء الغربيين الّتي لوّثوا بها تراث الإنسانيّة: {.. وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل}.والتّحرّر من استعمار العلم، حتّى لا نبقى إمّعةً وذيلًا لغيرنا، بَبْغاواتٍ نُردّد ما يقولونه ونلوك ما يكتبونه، دون إدراك ولا فهم ولا نقد ولا تفكير ولا إبداع!. مُستهدين بتوجيه الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إِمَّعَةً»، والإِمَّعَة هو المقلّد لغيره التّابع له على غير بيّنة ولا برهان ولا رأي، والنّهي عن الإمّعيّة عام شامل لكلّ مظاهر الحياة، فنحن منهيّون أن نكون إمّعة سلوكًا وأخلاقًا، ومن باب أولى اعتقادًا وعلمًا وفكرًا.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات