38serv

+ -

نشاهد بأعيننا مشاهد مؤلمة ونتابع عبر وسائط التواصل الاجتماعي قصصا دامية عن مشرّدين كثر لا مأوى لهم سوى الشّوارع، أمّهات بأطفالهن يحكين مآسي تعرضن إليها.. شيوخ طاعنون في السن يفترشون الأرض ويلتحفون السّماء.. وجدوا أنفسهم بلا مأوى أو معيل أو أسرة تحتضنهم بدفئها، فاتّخذوا أماكن يعلمها القاصي والدّاني مأوى لهم بعد أن ضاقت بهم دور الرعاية وجمعيات الإيواء ونحوها.إنّ هذه الظاهرة نتاج أسر تعاني التّفكّك والفاقة وضيق ذات اليد، لا يجد أفرادها مأوى يتّسع لجميعهم وبالأولى لا يوجد لهم قوت يقتاتون منه، فضلًا عن الكساء والشّعور بالأمن نحو المستقبل..والسّؤال الّذي يجب طرحه: كيف يمكننا التّعامل مع هذه المشكلة الواسعة الانتشار والمتنامية؟ الّتي تُسيء إلى مجتمعنا المسلم الموصوف بـ(رُحماء بينهم)، ويُسيء إلى دولة غنية مثل الجزائر.لقد بُذلت محاولات عديدة لمعالجة مشكلة التّشرّد في هذا البلد، ولكن لا يبدو أنّ هذه المعضلة ستحلّ فعليًا؛ لأنّ الأمر في تزايد مستمرّ..إنّ الإسلام تعامل مع مشكلة التّشرّد والفقر بوسائل أخلاقية، وسنّ الله سبحانه وتعالى في خلقه سننًا نظّمت أمور النّاس في جميع طرائق حياتهم، ومن هذه السُّنن أنّه جعلهم متفاوتين من حيث القوّة الجسدية والعقلية، وكان من أثر ذلك أن جعل منهم الغني والفقير، ولكنّه تعالى لم يترك الفقير هملًا تزداد فاقته حتّى يقضي عليه فقره، بل حرص الإسلام على حلّ مشكلة الفقر بطرق شتّى، فحثّ على العمل للقادرين وبثّ في نفوسهم أنّه تعالى إنّما أنعم عليهم بنعمة القوّة ليَكفلوا أنفسهم ومن ينفقون عليهم ثمّ إخوانهم من غير القادرين، فأوجب سبحانه للضعفاء حقّ الرّعاية من خلال نظام اقتصادي وأخلاقي واجتماعي متكامل، أقامه الإسلام وسار عليه المسلمون منذ البعثة النّبويّة الشّريفة، فأثبت تميّزه وكفايته بما لا يدع مجالًا للشّك في أنّه من لدن حكيم عليم.المجتمع السّليم هو الّذي يكون بين أفراده، تعاون وتفاهم ومودّة ورحمة، ومن الضّروري لبقائه وتماسكه أن يظلّ كذلك وإلّا عدّت عليه العوادي وهدّمته النّوازل وأصبح عرضة للدّمار والخراب وبذلك تضعف الأمّة الإسلامية وتتفرّق كلمتها ويسودها الشّقاق.والتّكافل الاجتماعي في مغزاه ومؤدّاه أن يحسّ كلّ واحد في المجتمع بأنّ عليه واجبات لهذا المجتمع يجب عليه أداؤها وأنّه إن تقاصر في أدائها فقد يؤدّي ذلك إلى انهيار البناء عليه وعلى غيره، وأنّ للفرد حقوقًا في هذا المجتمع يجب على القوّامين عليه أن يعطوا كلّ ذي حقّ حقّه من غير تقصير ولا إهمال، وأن يدفع الضّرر عن الضّعفاء ويسدّ خلل العاجزين وأنّه إن لم يكن ذلك تآكلت لبنات البناء ولا بدّ أن يخرّ منهارًا بعد حين.أحاديث نبويّة كثيرة تحثّ المسلمين على التّعاون والتّراحم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوٌ منه تَداعَى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه”، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: “المؤمن للمؤمن كالبُنيان يَشُدّ بعضه بعضًا”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَن كان معه فضل ظهر فليعبد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعبد به على من لا زاد له”، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: “خير النّاس أنفعُهم للنّاس”.هذه التّوجيهات النّبويّة الصّادقة الّتي تحثّ على التّواد والرّحمة والتّعاون وتؤكّد على إعطاء فضل المركوب والزّاد تدلّ دلالة واضحة على حرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم على إيجاد مجتمع متكافل متوازن تسوده المحبّة والإخاء ويهيمن عليه الإخلاص والوفاء.يقول الشّيخ الإمام محمد أبو زهرة: “يقصد بالتّكافل الاجتماعي في معناه اللّفظي أن يكون آحاد الشعب في كفالة جماعتهم وأن يكون كلّ قادر أو ذي سلطان كفيلًا في مجتمعه يمدّه بالخير وأن تكون كلّ القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح الآحاد ودفع الأضرار ثمّ المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي وإقامته على أسس سليمة”.إنّ المسؤولية في ظاهرة المشرّدين في الشّوارع تقع في الأساس على الأسرة الّتي غاب عنها الوازع الدّيني والتّفكّك العائلي الّذي هو أساس بناء الأسرة والوضع الاجتماعي المتردّي الّذي يُعانيه هؤلاء، ومن ثمّ أجهزة الدولة الّتي لم تجد حلًّا للمشكلة. لذا نطالب كلّ أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني بضرورة التّضافر والقضاء على هذه الظّاهرة الّتي انتشرت بصورة مفزعة في بلادنا خلال السّنوات الأخيرة.إنّها مسؤولية دينية ووطنية وهي مسؤولية كلّ مَن يريد الأمن والاستقلال والاستقرار للبلاد وكلّ مَن يريد إبعاد الوطن عن شبح السّقوط والانهيار. وقوّة الأنظمة تقاس بمقدار ما تستطيع أن توجد لدى رعاياها الشّعور بالمسؤولية، فالنّظام القويّ هو الّذي يتّصف أبناؤه بقدر كبير من الشّعور بالمسؤولية.وإنّ الشّعور بالمسؤولية هو الزّخم الّذي ينتج الطاقة الخلّاقة والّتي بواسطتها تتمكّن من تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.لابدّ وأن يشعر الفرد المواطن أنّه يعيش تحت ظلّ نظام يسهر على راحته ويُحقّق رغباته المشروعة، ويمضي قدمًا في بناء الوطن على أسس رصينة منطلقًا من منافع الشعب لا منافع طائفة أو فئة.تلك خصائص المجتمع الإسلامي، يشعر كلّ فرد فيه أنّه ليس لوحده، بل هناك الآلاف ممّن يعيشون معه على أرض واحدة، وهو محتاج لهم كما هم محتاجون إليه وأنّ أيّ ضعف في جزء من هذا المجتمع سيؤثّر سلبًا على الجزء الآخر.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات