38serv
هذا نصّ حديث نبويّ شريف، من الأحاديث المشتهرة بين النّاس المتكرّر على ألسنتهم، وأحسب أنّه من الأحاديث الّتي يحفظها الجمّ الغفير منهم. والحُكم العظيم الّذي يقرّره لا خلاف عليه، والحِكم الجليلة الّتي يكتنزها لا يجادل فيها أحد.ويكفي لبيان أهمّيته الأدبية وقيمته الخُلقية ومكانته الدّينية أن نسمع ما قاله الإمام ابن أبي زيد المالكيّ رحمه الله فيه، حيث قال: “جِماع آداب الخير وأزمّته تتفرّع من أربعة أحاديث: قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليِصْمُت”، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: “مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يُعنِيه”، وقوله صلّى الله عليه وسلّم للّذي اختصر له في الوصية: “لا تغضب”، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: “المؤمن يُحِبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه””. فهو أصلٌ عظيم من أصول الأدب، وركن ركين من أركان الخير، وعمود متين من أعمدة الدّين.وليس بسرّ يذاع قولي: إنّنا ابتلينا بما حذّرنا منه ربُّنا سبحانه في القرآن الكريم، وذلك قوله عزّ شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، فصِرنا نقول القول ونخالفه بالفعل، ونكثر تردّد القول ونحن أبعد النّاس عن الالتزام بما يقرّره هذا القول المكرور. ولعلّ هذا الحديث الشّريف من أبرز صور هذه الظاهرة السّلبية! فقد شاع فيما بيننا الاشتغال بما لا يُعنينا دينًا ودُنيا، وصرنا نتفنّن في الاشتغال بما لا يعنينا ونبدع في ذلك. وإلّا فما الّذي يعنينا في أخبار الفنانين والفنانات وفضائحهم؟! وما الّذي يعنينا في نتائج مباريات بطولات دول لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟! وما الّذي يعنينا في الكثير من الغُثاء الّذي ينشر على الفيسبوك واليوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي؟! ما الّذي يعنينا من أخبار فلان وعلان؟! ما الّذي يعنينا في تتبُّع أخطاء عالم أو داعية أو سياسيّ أو أيّ شخص آخر؟! ما الّذي يعنينا في الخوض في قضايا فكرية أو علمية تصارع عليها أهل القرن الرابع أو السابع أو التاسع؟! وما الّذي يعنينا.. وما الّذي يعنينا.. وما الّذي يعنينا.. كثيرة هي صور الاشتغال بما لا يعني في عالمنا ممّا لا يمكن تتبّع آحاده، وكثير هي الأوقات الضّائعة جرّاء ذلك! وكثيرة هي الفرص الفائتة نتيجة ذلك!. ومن الضروريّ مراجعة وتصحيح كلّ ذلك.وقد يكون من إضاءات الحديث الحضارية الّتي تنفعنا في علاقتنا مع الغرب أمّةً وأفرادًا: إرشاده لنا إلى الاشتغال بما يعنينا ممّا عند القوم من علوم وتكنولوجيا ونظم وكلّ نافع ومفيد، بدل اشتغالنا بما لا يعنينا ولا ينفعنا ولا يغنينا من فجورهم ولهوهم وموضتهم وفسادهم ولعبهم.. لأنّ من الظواهر المؤسفة تسابق المثقفين قبل غيرهم إلى نفايات الغربيين للعبّ منها، ممّا دفع الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله يطلق حكمه الشّديد على النُّخبة: “.. فنخبتنا المثقفة على استعداد لأن تأكُل في سائر المعالف”، وهذا نتيجة أسباب متعدّدة ومعقّدة، ومن أهمها: اشتغالهم بما لا يعنيهم ولا ينفعهم.على كلٍّ فوائد هذا الحديث كثيرة وكبيرة لا يمكن حصرها في كلمات، لكن من المهم التّنبيه على أنّ من أروع فوائده الّتي تشعّ من أنواره: إرشاده وتقريره أنْ ليس المطلوب منّا (إسلامًا) وكفى، أي كيفما كان وكيفما اتّفق، بل المطلوب منّا حُسن الإسلام، بكلّ ما تحمله كلمة (حسن) من جمال وإتقان! فهي مرتبة راقية مطلوب من المسلم أن يسمو إلى عليائها وجلالها، وفضل ذلك يُبيِّنُه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكلّ حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكلّ سيّئة يعملها تكتب بمثلها حتّى يلقى الله عزّ وجلّ”، فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابدّ منه، والزّيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النّية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله.ومظهر ذلك يوضّحه قول الإمام ابن رجب الحنبليّ رحمه الله: “وإذا حسن الإسلام، اقتضى ترك ما لا يعني كلّه من المحرّمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات الّتي لا يحتاج إليها، فإنّ هذا كلّه لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يَعبُد الله تعالى كأنّه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حَسُن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ّما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه”.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات