38serv

+ -

 هل يمكن أن نتصور مدينة خالية من إشارات المرور، لا يتحكم في إدارة تدفق السيارات والمارة في شوارعها سوى الوازع الأخلاقي؟ إن قانون المرور والضمير الأخلاقي، إن وجد لدى البعض، لم يحولا دون وقوع حوادث السير. فالتشريعات القانونية شرط أساسي لتنظيم العلاقات بين الناس والمؤسسات وإن وجد الضمير الأخلاقي الحي فيعزز سلطتها. لكن الأخلاق تراجعت في المجتمعات المعاصرة، بل غابت، ما حذا بعالم الاجتماع “ميشال مفيسولي” إلى عنونة أحد مقالاته التي نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية في 1 ديسمبر 2011، بالعنوان الذي استعرناه لهذا العمود الصحفي.أجل، إن الأخلاقيات التي لا توجد إلا في صيغة الجمع، ما يؤكد تعددها وتنوعها، تحولت إلى انشغال كوني. فكل المهن والأنشطة والمجتمعات أصبحت تطالب بسلطة الأخلاقيات وليس الأخلاق. قد يسأل سائل: وهل يوجد فرق بينهما؟ أليست الأخلاقيات مشتقة من الأخلاق؟ بالفعل يوجد فرق كبير بين الأخلاق والأخلاقيات. وقد بيّنه عالم الاجتماع المذكور بالقول إن الأخلاقيات تقوم على منطق “ما يجب” أن تكون عليه الأمور. وتفضل القيم الكونية المجردة التي تتجاوز المكان والزمان، فهي ذات طابع معياري. بينما تستند “الأخلاقيات إلى منطق” ما يمكن أن تكون عليه الأمور” أو ما يُراد لها أن تكون عليه. لذا، فإنها تتسم بالخصوصية وتملك طابعا محليا أو فئويا، وتروم تجسيد ما هو لائق أو مناسب وصائب في سياق محدد. فالأخلاق التزام طوعي فردي، بينما الأخلاقيات التزام طوعي جماعي ذو طابع عملي ينمّ عن شعور ملموس بالمسؤولية الاجتماعية. لذا، نلاحظ أن الأخلاقيات تلهم القواعد القانونية وتسبقها في الوجود. لكن، لماذا تزايد الطلب الاجتماعي على إصدار مدونات الأخلاقيات في العديد من قطاعات النشاط والمهن، وفي العديد من المجتمعات؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالهينة وذلك لوجود العديد من الأسباب المختلفة والمتشابكة التي تفرض الحاجة إليها في حياتنا المعاصرة، سنقتصر على ذكر أبرزها فقط. فدور العديد من دول العالم انحصر، وتقلصت معه صلاحياتها أمام توسع نشاط القطاع الخاص و«تغول” الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل على المبدأ الذي يكاد يكون وحيدا: تحقيق المزيد من الربح المادي في ظل ضمور التشريعات والقوانين الوطنية التي تسعى لحماية المستهلك والدفاع عن حقوقه، مثل الحق في التعبير والإعلام والعمل والصحة والكرامة. فالكثير من هذه الشركات أصبحت طرفا مؤثرا، بل حاسما في بعض الأحيان، في صياغة التشريعات القانونية للعديد من الدول حفاظا على مصالحها. هذا إضافة إلى أن تطور العلوم والتقنية فتح الآفاق لمعالجة الكثير من الأمراض الوراثية بتعديل بعض الجينات، لكنه سمح، أيضا، بالتلاعب بالجينات البشرية والنباتية لرفع كمية المحاصيل الزراعية وإطالة عمر بعضها أو زيادة وزنها أو تغيير لونها، ما يهدد صحة الإنسان وسلامته. وتزايد الخوف على مصير الكائنات الحية في الكون، نتيجة التلوث السريع في البيئة وارتفاع درجة الاحتباس الحراري، ما ينذر البشرية بكوارث طبيعية جسام. هذا بجانب الهوس بالتفوق في مختلف المجالات، مثل امتلاك الأسلحة المتطورة المدمرة أو تحقيق الفوز بشتى السبل، كما هو الأمر في الرياضة. وقد انجر عن هذا الهوس العديد من الانحرافات، مثل تعاطي المنشطات والرشوة. والأخطر من كل هذا، أن السياسية تحولت إلى مقبرة للأخلاق. قد يقول قائل إن هذه الممارسات وجدت بهذا الشكل أو ذاك، في الماضي، ولم يصاحبها الإلحاح في المطالبة بإصدار مواثيق الأخلاقيات. لذا يمكن القول إن الإلحاح، اليوم، يفصح عن تطور في ممارسة الحريات، ويبيّن أن المواطن في المجتمعات المتقدمة أصبح يتمتع بقدر كبير من الثقافة والإعلام وبوعي بمسؤولياته تجاه القضايا التي ذكرناها آنفا. ولا يخفى عنا أن تطور تكنولوجية الاتصال قد استغل من أجل اختراق الحياة الشخصية والتلاعب بصور الأشخاص والتجارة بالبيانات الخاصة بهم وبأسرارهم، ما أدى بمؤسسات المجتمع المدني ورجال الفكر والقانون إلى المطالبة بأخلاقيات التعامل مع مثل هذه المعلومات. بل إن حضور الإعلام في كل مكان وزمان، وتنامي سلطته وقوته سواء في المجال السمعي-البصري أو الصحافة المكتوبة أو الإذاعة، يتطلب، كأي سلطة، سلطة مضادة تضمنها القوانين والأخلاقيات. ويفسر الفيلسوف “جيل ليبوفيتسكي” الإلحاح في المطالبة بالأخلاقيات بالقول إنه طُرح في المجتمعات الليبرالية كرد على الخوف الذي يثيره النمو المفرط للسلطات الجديدة، سواء أكانت تقنية أو علمية أو مالية أو إعلامية أو سياسية. لكن، ما مصير هذه الأخلاقيات التي من المفروض أن تحظى بإجماع المعنيين بها إذا سنّت من أجل الضبط الذاتي لمهنة ما، مثل الطب أو الصحافة والسياسة، إن كان الطبيب يتعامل مع مرضاه كتاجر أكثر من كونه طبيبا، والصحفي يتصرف كسمسار، والسياسي يقتل الفضيلة ويمشي باكيا في جنازتها؟

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: