+ -

 في زيارتي الأخيرة إلى تركيا منذ سنة، والتي سبقتها زيارة أخرى منذ سنوات، لم أنبهر بالطريقة التي تغيّر بها المظهر العام، ولا بحب الأتراك لوطنهم وغيرتهم على ثقافتهم وتراثهم وتاريخهم.. ولم يهزني ذلك الطموح اللامحدود لإنتاجهم الإعلامي ورغبتهم في غزو العالم العربي والعالم ككل، بالسينما والتلفزيون ومكاتب وكالات الأنباء، والمراكز الثقافية في أوروبا وإفريقيا وأمريكا.. لا، أبدا، ما أبهرني وهزني وجعلني أطرح عديد التساؤلات عن واقعنا، أن 90 بالمائة من المستشارين والباحثين في مراكز البحث الاستراتيجي والاستشراف في تركيا، تتراوح أعمارهم بين 30 إلى أربعين سنة فقط، ومنهم بعض مستشاري الوزير الأول رجب طيب أردوغان الذين التقينا بهم، ونعلم جيّدا ماذا فعل الرجل خلال عشر سنوات بالنسبة لتركيا، ومن أي مكان رفعها ورفع اقتصادها، إلى درجة أن فرنسا ستعيد النظر في قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تربطها بما يسمى “إبادة الأرمن”، وستعرض الأمر على الشعب الفرنسي للاستفتاء، وهذا ليس حبا في عيون الأتراك وجمال مهنّد، بل لأن اقتصاد تركيا أصبح مغريا، والمؤسسات الاقتصادية الأوروبية أصبحت مرتبطة كثيرا بمؤسسات تركية منتجة. نعم.. هذه تركيا التي يقودها الشباب، بينما الجزائر التي تبلغ فيها نسبة الشباب 70 في المائة، فلن تستفيد حاليا من هذه الثروة، كما لم تستفد من ثروات عديدة، وستهدرها على مرّ السنوات في قوارب الموت أو على كراسي المقاهي أو في مكاتب المؤسسات الدولية في كل دول العالم، بينما تقول الدراسات إن المجتمع الجزائري سيتجه بعد 20 سنة نحو الشيخوخة، بسبب تغير طبيعة المجتمع وتحديد النسل، وصعوبة الحياة التي جعلت الأزواج يقتصرون على إنجاب ولدين فقط، بالإضافة إلى العنوسة.. نحن مجتمع نتجه نحو الموت البطيء، بأيدي جماعة تريد أن تسيّرنا من مستشفى فال دوغراس، أو تحوّل الرئاسة إلى مستشفى عين النعجة، بعد أن اشترت الذمم وطوّعت المعارضة وأخلطت الحسابات ومّيعت الأحزاب الكبرى والرئاسيات وجعلت الرئيس المريض، يبدو أفضل المرشحين (في حال ترشحه)، وقدرنا المحتوم الذي لا خيار فوقه ولا بعده.. 15 سنة من التكسير المتعمد لكل شيء، للطاقات، للنخب السياسية والاقتصادية والثقافية ووو، للنقابات، للسياسيين، للمعارضين، للوطنيين، للنزهاء، للشرفاء، للطامحين الصادقين، للكفاءات.. 15 سنة كانت نتيجتها انتخابات بائسة، ستكون نتيجتها أكثر بؤسا على الجزائر.. قد يتساءل البعض، لما كل هذا التشاؤم والسوداوية؟ ويقول قائل مازال هناك الرجال. لكن واقع الحال يقول إن الرجال الذين سكتوا على هذا التكسير المنظم لقيمنا ومجتمعنا وحتى تاريخنا، لن يتحركوا الآن والجزائر رهينة الصمت القاتل والمخزي، ورهينة في أيدي المال والأعمال ورجال الفساد والعروشية والـ«زوي” والجهوية المسمومة التي مازالت تنخر الجزائر وستنخرها أكثر إن استمر الوضع على حاله. لن يفيدنا، حاليا، أمام هذا التعفن الواضح والانحطاط التام في قيم الاختيار وتولي المسؤوليات، وعلاقتنا مع الوطن كمفهوم يتجاوز الطموحات الفردية والجهوية والعصبية، إلى إطار عام يعيش فيه الجميع في كرامة واحترام، إلا أن يستفيق ضمير بعض رجال الجزائر الحقيقيين، ليفكروا في إنشاء جبهة حقيقية تقف أمام هذه الآلة، وتعيد ترتيب الأولويات وتغرس الأمل في أجيال بأكملها تنتظر التغيير الحقيقي، وليس الترقيعات الأولية والمسكنات الاجتماعية ومهدئات المشاريع الوهمية المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية (فحتى قطعة الحلوى أصبحت لا تغري أطفال هذا الزمن)، وإلا ستتحول الجزائر كلها إلى فال دوغراس..

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: