38serv
يقول الحقّ سبحانه: {ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون”. أقسم الباري سبحانه ونبّه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعلّم الكتابة الّتي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي: وما يكتبون. فبالقلم حُفظ الوحي، وبه دُوّنَت السّنن، فكتبت أحاديث النّبيّ الّذي لا ينطق إلّا عن وحي، بالقلم كُتبَت آثار الصّحابة الّذين فسّروا بأقوالهم وأفعالهم مرادات الله، ومرادات رسوله، وكتب بالقلم تاريخ الأمم، وأخبار الحضارات وعلومها ومعارفها، بالقلم حفظ العلم، ودوّنت الدّواوين، فما أشرف القلم، وما أرفع شأنه، وما أعظم منّة الله على عباده به.بالقلم كتب العلم الّذي هو ميراث الأنبياء؛ فعند أبي داود من حديث كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء: إنّي جئتُك من مدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لحديث بلغني أنّك تحدّثه عن رسول الله، ما جئت لحاجة، قال: فإنّي سمعتُ رسول الله يقول: ”مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنّ العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر”.بالعلم فضّل الله آدم عليه السّلام على الملائكة، رغم أنّهم لا يَفتُرون عن الطّاعة ولا يعصون، فأمرهم الله بالسّجود لآدم تكريمًا، بالعلم تضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم: ”وإنّ طالب العلم يستغفر له كلّ شي حتّى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب”، بالعلم والإيمان ترتفع الدّرجات: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، بالعلم يسهَّل الوصول إلى الجنّة: ”مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله به طريقًا إلى الجنّة”.بالعلم تتحقّق النّجاة، ففي القبر تسأل: مَن ربّك؟ ما دينك؟ ومَن نبيّك؟ فإن أجبتَ، يقول الملكان: ما علمك؟ فتقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به وصدّقتُ، فينادي مناد من السّماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنّة، وألبسوه من الجنّة، وافتحوا له بابًا إلى الجنّة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره. العلم شرط من شروط لا إله إلّا الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، بالعلم تزداد قلوبنا معرفة بربّنا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وبالعلم نُعصم من الفتن، ونسلم من الشّبه، ونقيم الفرائض، ونعبد الله على بصيرة، ونفرّق بين الحلال والحرام، بالعلم والإيمان ترتقي الأمم، وتهتدي البشرية في الظّلم، وتسود حياة القيم.واعلم رعاك الله أنّ التّقوى مفتاح العلم، وسبب الفهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، فبالتّقوى يفرّق المرء بين الحقّ والباطل، والخير والشرّ، بالتّقوى تستنير البصائر، وتهتدي العقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِه}.واعلم أيّها الفاضل أنّه لا شيء يعدل فضل العلم بشرط صحّة النّية، فانظر إلى البخاري كيف بدأ صحيحه بحديث الفاروق: ”إنّما الأعمال بالنّيات”، وكذلك فعل غيره كالنّووي في رياضه، فهل تستحضرون هذا وأنتم خارجون كلّ صباح إلى جامعتكم؟ فافتحوا نفوسكم للعلم والدّراسة، واستحضروا الفضائل، وحفّزوا أنفسكم بها نحو الجدّ في طلب العلم.ضع في ذهنك يا طالب الجامعة أنّ الجامعة ليست ملابس جديدة نتأنّق بها بداية كلّ عام، وليست صحبة من أصدقاء، وليست ناديًا من النّوادي تُمضي به الوقت حتّى يحين موعد العودة إلى البيت، بل إنّه التّحصيل والسّعي والوعي والتّعب، عودوا إلى تجارب الأجيال الماضية، تحدّثوا إلى أقاربكم وتفهّموا منهم كيف كانوا يقبلون على حياة الجامعة بروح طموحة، وبنفس راضية، كانوا يحرصون على حضور كافة المحاضرات والمناقشات، ويرون الغد كأنّه واقع سيلمسونه قريبًا، مع أنّ ظروفهم كانت أصعب وأشقّ، فقد كانوا ينتظرون على الطّرق السّاعات الطّويلة حافلة تنقلهم إلى جامعتهم، وعانوا الأمرَّين كي يوفّروا أقلّ احتياجاتهم المعيشية والعلمية، ونادرًا ما استطاع أحدهم شراء كتبه لقلّة الحيلة وسوء الحالة، ولكنّهم عوّضوا ذلك بالعمل الشّاق المثمر في مذاكرتهم، ولم يبخلوا كي يتعلّموا ويفهموا الحياة من حولهم.اطلبوا العلم لذاته وقدروه واحترموه في مظهركم وجوهركم، فإن حصلتموه وكان عونًا لكم على الحياة فذاك، وإن لم يحدث فليكفكم شرفه، وابحثوا عن أيّ حرفة دون ندم على سنوات دراستكم، فأنتم لم تدرسوا لأحد بل لأنفسكم، اقتنعوا بضرورة الفصل بين تحصيل العلم وبين ارتباطه بضرورة الحصول على فرصة عمل به، ولكم في رسول الله وصحبه الأسوة الحسنة، فقد جابوا مشارق الأرض ومغاربها من أجل تحصيل العلم لذاته، ولم يطلبوه لأجل منصب أو جاه أو سلطان. والله وليّ التّوفيق.إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات