38serv
المقصد الثاني من مقاصد الشّريعة الخاصة بالعقوبات، ‘تأديب الجاني’، وهو راجع إلى المقصد الأسمى المتمثّل في إصلاح الجاني الّذي هو فرد من الأمّة ولا تقوم الأمّة إلّا بمجموعهم حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ}، وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا}، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائَةَ جَلْدَةٍ}، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، فإقامة العقوبة على الجاني يزيل عن نفسه الخبث الّذي بعثه على الجناية والّذي يظنّ أنّ عمل الجناية رسخه في نفسه إذا صار عمليًا بعد أن كان نظريًا، ولهذا المعنى فرع الله تعالى على إقامة الحدّ قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}.ولكي تُحْدثَ العقوبات أثرها في الجاني جعلت مادية في الجسم والمال ومعنوية أيضًا، لتكون أبلغ في التّأديب، وأعلى التّأديب الحدود، لأنّها مجعولة لجنايات عظيمة، وقصدت الشّريعة التّشديد فيها لانزجار النّاس وتطهير الجاني من خبث الجريمة.والحدّ إمّا قتل وهو زجر لا زجر فوقه، وإمّا قطع وهو إبلام شديد وتفويت قوّة لا يتمّ الاستقلال بالمعيشة دونها طول عمره، وهو عار ظاهر أثره بمرأى النّاس لا ينقضي، فإنّ النّفس إنّما تتأثّر من وجهتين؛ النّفس الواغلة في البهيمية يمنعها الإيلام، والّتي فيها حبّ الجاه يردعها العار الملازم له أشدّ من الإيلام، فوجب جمع هذين الوجهين في الحدود.وعلى معنى الجمع في العقوبة لتحقيق مقصد التّأديب المقصود بتشريعها، قال صلّى الله عليه وسلّم في سرقة ما دون النّصاب: “عليه العقوبة وغرامة مثلية”. وإنّما أمر بغرامة المثل لأنّه لا بد لمرتكب الجريمة من ردع، وعقوبة مالية وبدنية، فإنّ الإنسان ربّما يرتدع بالمال أكثر من ألم الجسد، وربّما يكون الأمر بالعكس فجمع بين ذلك.وقد سبق وأن ذكرنا أنّ أعلى درجات التّأديب في الحدود هو القتل فلا حدّ فوقه لأنّه يقضي إلى إقصاء المجرم من الحياة الدّنيا جملة، ولهذا المعنى شدّدت الشّريعة في إيقاعه وضبط وقوعه ضبطًا دقيقًا، وربطته بفوات مصلحة كلية لا تتأتّى بدونه ولو فوتت تلك المصلحة بعدم وقوعه، لكان تركها أشدّ إفسادًا منه وهو المعنى الّذي أومأ إليه القرآن في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، وبناء عليه حدّدت السُّنّة المواقع الّتي يحلّ فيها دم المسلم فقال صلّى الله عليه وسلّم: “لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلّا الله وأنّ محمّد رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النّفس بالنّفس والثّيِّب الزّاني والمُفارق لدينه التّارك للجماعة”.أمّا ما سوى هؤلاء الثلاثة ممّا ذهبت إليه الأمّة مثل قتل الصّائل والمحارب من غير أن يقتل أحد عند من يقول بالتّخيير عند أجزية المحارب، والسّارق الّذي تكرّرت سرقته كثيرًا ولم يردعه القطع وهو ما ذهب إليه مالك، وكذا جرائم أمن الدولة المُفتَى فيها اليوم والمخدّرات وغيرها فكلّها يمكن إرجاعها إلى أحد هذه الأصول.وبرغم من تشديد الشّريعة في تأديب الجاني وردعه عن جنايته فإنّها ضبطت ذلك ضبطًا دقيقًا وشدّدت في شروطه خاصة فيما يتعلّق بالحدود، فجعلته مبنيًا على العلم والثّبوت بالأدلة القاطعة المؤسّسة على مسلك الإقرار أو الشّهادة المتعدّدة المستندة إلى العدالة والثّقة، وذلك قصدًا منها لتضيّق دائرة العقوبات وبخاصة في الحدود ما أمكن دون الإخلال بالمصالح الكلّية الّتي شرعت من أجلها.وعلى هذا المعنى تأسّست قاعدة “درء الحدود بالشّبهات” الرّاجعة إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: “ادرءوا الحدود بالشّبهات ما استطعتم”، فعلى هذا النّصّ الّذي تلقّته الأمّة بالقبول واتّفق عليه فقهاء الأمصار وعمل به الصّحابة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: “لأن أعطّل الحدود بالشّبهات أحبّ إليّ من أقيمها بالشّبهات”.وبناء عليه، فمتى ظهرت شبهة للجاني التحقت بالخطأ فيسقط الحدّ عنه بالشّبهة، وممّا ينخرط في هذا المعنى وينعقد في سلكه أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وأصل هذا المعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: “لأن يخطئ الإمام في العفو خير له من يخطئ في العقوبة”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات